السبت 2024/11/30

آخر تحديث: 11:51 (بيروت)

مقالات في غير أوانها: آلان روب-غرييه

السبت 2024/11/30
مقالات في غير أوانها: آلان روب-غرييه
يرى أن النص ما أن يُنجز حتى يصير خارج أي إمكان نظري
increase حجم الخط decrease
لعلّ أهمّ ما بشّر به الكاتب الفرنسي آلان روب-غرييه في عالم الأدب، هو التيه عن مستقرّ دلالي بعينه. لا يحفل غرييه بالعالم كما هو معطى لنا، ومهمة النص في هذا السياق هي سدّ فجوات هذا العالم وصولاً إلى أن يكون النص هو العالم بذاته. ولعل تصريح غرييه في إحدى المقابلات بأنه يستطيع التعبير عن الأشياء بقناعة من دون التسليم بأنها حقيقية يعكس إيمان هذا الروائي والسينمائي الفرنسي بهذه الحقيقة.
 
لَبَّت تصورات غرييه عن النص الأدبي، طموح جملة من النظريات الأدبية التي سادت في عصره، ولعل تصورات رولان بارت عن الأدب هي محل تواشج كبير مع نصوص غرييه. ينتمي آلان روب-غرييه إلى مدرسة في الأدب تُعرف بـ"الرواية الجديدة"، وقد شاركته هذه المدرسة مجموعة من الكتّاب في عالم الرواية، مثل ناتالي ساروت وميشيل بوتور وكلود سيمون وغيرهم. وعلى الرغم من إصرار هذه المجموعة على الخروج عن كل ما هو مألوف في عالم السرد، فإنهم لا يُغفلون على الإطلاق مديونيتهم لجملة من النصوص السابقة عليهم، والتي أوْلَتْ في عملية القص أهمية كبرى لعناصر "اللحظة" و"الذاكرة" و"الباطن" و"المباغت" وغيرها. ومن هؤلاء فرجينيا وولف، مارسيل بروست، جيمس جويس وصولاً إلى رومنطيقية القرن التاسع عشر الألمانية والمسكوت عنه في جملة هذه المؤثرات، مثل القابالي الألماني يوهان غيورغ هامان، لا سيما في تصدّيه لفلسفة صديقه اللدود إيمانويل كانط. وبالنسبة إلى غرييه بالذات، ثمة حضور طافح لدوستويفسكي، لا سيما شخصية ستافروغين كما بثها الروائي الروسي في رائعته "الممسوسون" حيث، وانطلاقاً من هذه الشخصية، يعتبر غرييه أن بعض الكاراكتيرات الأدبية هم حالات اندفاع متدفّق وإمكان تجنبهم مستحيل. وفي هذا الصدد نراه يصرّح – وقد أصبح في سنّ متقدمة – أنه يفشل في التفريق بين الأشخاص الذين قد مروا في حياته وأبطال الروايات التي كوّنت شخصيته.

على الرغم من عدم أخذه الأكاديمية بعين الجدية والوقار، فإن غرييه يولي النظرية الأدبية أهمية قصوى، لكنه يرى أن النص ما أن يُنجز حتى يصير خارج أي إمكان نظري. فالنص بالنسبة إلى غرييه "لا يتكوّن من الكلمات فقط إنما أيضاً من الضوضاء والأذواق والمشاعر والروائح والأصوات" (آلان روب-غرييه\ الجن والمتاهة). 

إن تشديد هذا الكاتب على احتواء النص على ما يخالف محض الكلمات يدفع به إلى اعتبار الكتابة الأدبية واقعة شخصية بالدرجة الأولى. فالنص الأدبي بالنسبة إلى غرييه هو عالم قائم بذاته، يسترشد أكثر ما يسترشد بمكبوتات كاتبه وأسراره، بآماله ورجاءاته، بما يخفيه عن الآخرين وبشكل خاص بما يخفيه هذا الكاتب عن نفسه. بالتالي، إذا كان العالم الخارجي يضيّق لحظات الإنسان بعامة، فإن الإنكباب على كتابة الرواية يزيد هذه اللحظات اتساعاً. الرواية بمنأى عن العالم – يقول غرييه – ربما هي تلصّص حذر، اختلاس نظرة، استراق سمع وبشكل أساسي فرار من العالم وتجنبه.

على العكس من تلك النظريات التي ترى أن إنتاج النصوص يخضع للكثير من القواعد الاجتماعية التي تنتج هذه النصوص، فإن غرييه وانطلاقاً من وقوفه ملياً عند العالم باعتباره مسافة بعيدة، يرى أن إنتاجه للنص يقع في دائرة الذات حيث الإلتباس والحيرة والتردد والذعر حيال العالم، سادة الموقف... إن الجملة المكتوبة – كما يقول – هي نوع من النفي الجذري للعالم اليومي المحسوس، إنه النفي الذي يمهّد الطريق إلى الحلم وإلى جوهر الكتابة، أي إلى المتاهة. وليست إلا تلك المتاهة – هوس غرييه – التي حدت به في أحد اللقاءات للقول، إن للكاتب الحق في أن يضمّن نصه أموراً لا يمكن لأحد أن يفك ألغازها وأن يحلّ رموزها. بيد أن هذا الموقف الجذري حيال علاقة النص بمتلقّيه، لم يحُل دون قناعة لطالما جاهر بها هذا الكاتب مفادها أن الدلالة – دلالة أي نص – لا يجب أن تكون محل تحوّط من قبل القرّاء. إن دلالة النص ليست رهن شرط بعينه، إلا شرط المتلقّي حيث يعود طيف رولان بارت ليحوم فوق تصورات آلان روب-غرييه عن الأدب بالإجمال. فبالنسبة إلى بارت إن القراءة ليست مجرد استهلاك للكلمات عبر العيون والذهن، بل هي إبداع وتفتّح، وصولاً لقوله إن القراءة هي بالعمق إعادة كتابة إنما من نمط آخر. "فالمرور من مستوى دلالي إلى آخر" بالنسبة إلى رولان بارت يمثّل في حدّه الأقصى وضع القارىء نفسه في عملية إنتاج النص وهو جلّ ما يبتغيه غرييه انطلاقاً من اعتباره النص الأدبي واقعة إستحواذية على الدوم. 

فعلى الرغم من إيمانه العميق الذي يرى أن النص هو الكاتب مبثوثاً داخل عالمه الخاص، فإن للقارىء، بحسب غرييه، حصّته الشخصية من هذا العالم مترامي الأطراف من جهة الدلالة والتخمينات والتوقعات، وصولاً إلى الإستكانة إلى محض الذات حيث ثمة كافكاوية لطالما جاهر بها غرييه، فضلاً عن صديقه ستافروغين الذي لازم جلّ تصوراته عن الشخصية الأدبية وعلاقة السرد بالعالم. 

كثيرة هي الإعتبارات التي ساقت آلان روب-غرييه للجوء إلى جمالية متاهة الكتابة هرباً من العالم الموضوعي الذي يقوم على محض متاهة واحدة، هي متاهة الملل. ولعل ما بثّه غرييه في واحدة من قصصه القصيرة ضمن مجموعة "لقطات" يعبّر بشكل واضح عن تصوره عن هذا الملل القاتل: "حشد مبعثر من ناس مسرعين. يسيرون كلهم بالسرعة نفسها. يتابعون المسير في نفق من غير ممرات عرضية"... الكل يسير في اتجاه واحد، إنه العالم الحديث حيث تحول الملل إلى نمط عيش (modus vivendi). إنه العالم الذي يعمل بكل جهد على تخدير ظنون الناس حيال أنفسهم حيث الحياة – على سبيل المجاز – لا تتعدى أن تكون مجرد انتظار وصول القطار داخل نفق. إنها ديمومة الملل التي تحايث إلى حد الفجيعة يوميات الإنسان الحديث، إنها الديمومة التي دفعتْ بغرييه في رواية "جن" إلى مماهاة هذه الحياة مع الموت..."عندما نموت يحصل الموت بصفة دائمة" وهي الصفة التي ترسم مشهد انتظار الناس للقطارات داخل ذلك النفق... داخل ذلك العالم. 

تحت عنوان "أحدث مقابلة مع آلان روب-غرييه" (نُشرتْ الترجمة العربية لهذه المقابلة في مجلة العرب والفكر العالمي العدد الأول شتاء 1988)، تطرّق غرييه إلى المقارنة بين يورغن هابرماس وهيغل مشيراً، وإن بشكل غير مباشر، إلى فتور همّة هابرماس باعتباره - حسب غرييه - عالم اجتماع وليس فيلسوفاً، ومشيداً من جهة أخرى بهيغل (الذي يكاد أن ينقرض) باعتباره ميتافيزيقياً. جلّ ما يتوخاه غرييه عبر فعل الكتابة تحيين الماوراء وعدم الإكتفاء بالحس الموضوعي في مقاربة الكائن البشري. فعبر هذا الماوراء الحر واللامقيّد، تكفّ كلمات النصوص عن أن تكون مجرد خطوط مستقيمة مصطفة قرب بعضها البعض كاصطفاف ناس المجتمع الحديث بانتظار وصول القطار. فالميتافيزيقا، وإن كانت صامتة تراها، تتشوّق احتراقاً كي تداخل النصوص وهو ما أشار إليه بعمق الناقد الأميركي جورج شتاينر في كتابه Language and Silence والذي سيكون موضوع المقالة الثانية ضمن هذه الثلاثية.
 
increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها