في اليوم الثاني للهدنة أو وقف الأعمال العدائية والحربية بين "حزب الله" وإسرائيل، ضمن تسوية لا تزال هشّة وغامضة ومفخخة، برز فجأة الحديث عن معارك ضارية في ريف حلب بين المعارضة والنظام في سوريا، جثث في الميدان، قافلة مدرعات وآليات تتجه للمشاركة في المعارك... لا أحد يعرف لماذا بدأت الحرب وإلى أين تتجه في مستنقع الشرق الأوسط الذي تكثر أسطوانات تغييره منذ سقوط الشيوعية أو نهاية "الحرب الباردة".
هكذا الأمور دائماً في الشرق الأوسط، "تحت الرماد وميض جمر"، كما يقول الشاعر الأموي نصر بن سيار. رياح في كثبان الرمال. كثر ظنوا أن الاستقرار عاد إلى جنوب لبنان بعد التحرير العام 2000، وكثر ظنّوا أن لا حرب بعد 2006، وكثر يقولون إن حرب 2024 هي الأخيرة. التخمين ضرب في الرمل. وسوريا بعد الغليان والثورة والتفكك والتدخل الخارجي، بقيت في حالة التأرجح، لا أُنهيت المعارضة المسلحة، ولا وقف النظام على قدميه. ربّما تنتظر جولات جديدة من العنف وتشكيل الدويلات.
المهم أن الحياة تتجدّد في لبنان، بلد يخرج من رماده بغض النظر عن خرافة طائر الفينيق. يتجدّد الأمل واليأس معاً على وقع رصاص الابتهاج، احتفالاً بوقف إطلاق النار. إذ بدأت الجرافات في فتح الطرق وإزالة الركام، وبدأ الكلام عن خطط إعادة الإعمار، عاد دوام المدارس إلى طبيعته، تقلّص تكديس السيارات في الأحياء، نُظفت شرفات المنازل من غبار القصف. لكن أفيخاي أدرعي ما زال يعطي الأوامر والتحذيرات عبر منصة "إكس". أفخياي ما زال يتحكّم فينا، الدبابات الاسرائيلية لا تزال في البلدات والقرى الأمامية، المسيّرات لم تغادر السماء في المناطق الجنوبية.
العودة لم تكتمل، زلزال القصف هائل على الأرض. وردت في رأسي، فيما أتأمل الدمار والعائدين، عبارة محمود درويش "البيت أجمل من الطريق إلى البيت". لكن كثيرين لم يصلوا إلى بيوتهم بعد. كثيرون لم يجدوا بيوتهم، أو لم يعرفوا أمكنة بيوتهم.
زحمة العودة كانت لا تزال مستمرة في اليوم الثاني لوقف إطلاق النار، على طريق صيدا. رايات قليلة يحملها أفراد في بعض السيارات، أناشيد تشير إلى جهات حزبية، ربّما هناك عائدون من سوريا أو أماكن بعيدة. سيارات كثيرة معطلة إلى جانب الطريق، آليات الجيش متجهة إلى الجنوب. زحمة في بعض مطاعم الشاورما، واضح أنها إستراحة النازحين أو العائدين قبل وصولهم إلى بيوتهم، أو ربما عادوا ولم يجدوا أثراً لها ولذكرياتهم. الدخول إلى المطعم في هكذا ظرف أشبه بفخ، على المرء أن ينتظر قرابة نصف الساعة حتى يحصل على سندويش. في وقت الانتصار يكون التبرّم والضجر، أشخاص يعرفون بعضهم بعضاً، يلتقون بالصدفة في المكان، المآسي مفتاح الحكايات والفضفضة. تلقائياً، يسمع المرء الحكايات والأحاديث، وجوه عابرة، وجوه صامتة، وجوه تحكي، عبارات قليلة تختصر المشهد والآلام والكارثة والحقيقة. أحدهم يقول "الحي بأكمله في ضيعتنا قُصف، أولاد عمي كلهم ماتوا. أنا كنت في مدينة صور، ونزحت، قصفت البناية التي بجانب بنايتي، شقتي تضررت كثيراً، سكنت في صيدا، ولا أزال". الأحاديث كلها تشير إلى الدمار والموت.
الأجواء في فايسبوك نفسها الشارع، راحت السَّكرة وأتت الفِكرة. أحدهم يخبر أنه عاد الساعة الرابعة فجراً إلى بلدته، ولم يجد المكتب ولا البيت ولا المبنى، "رَجَعَ بِخُفَّيْ حُنَيْنٍ" إلى بيروت. امرأة عادت إلى منطقتها ولم تجد بيتها ولم تجدْ بيتاً للإيجار. صديقة قالت بعد عودتها إلى بساتين أهلها في البقاع، إن ثمار التفاح وكأنها عملت برونزاج، أخذت لوناً بسبب بقائها من دون قطف. كثر ذرفوا الدموع، كتبوا الكلمات الوجدانية عن فقدان منازلهم. كثر بكوا خسارتهم أحبتهم.
على شاشات التلفزة يتجدّد لغو الهزيمة ولغو الانتصار ولغو السيادة ولغو الدستور في لبنان. كل لديه قاموسه للأشياء، كل لديه مفراداته وزعيمه. لا إمكانية للمحاسبة في ظل جمهورية المَلل والمِلل والطوائف. في مناطق حدودية، استُقبل الجيش اللبناني بالورد والأرزّ، وأناس يرقصون فوق بيوت مدمرة، وعلى وقع استئناف المناكفات السياسية مسارها الأعوج. تحديد جلسة لانتخاب رئيس للجمهورية، الحديث عن السلاح، التجديد لقادة الأجهزة الأمنية، الاستراتيجية الدفاعية، النفق رقم 4...
التعليقات
التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها