الأربعاء 2024/11/27

آخر تحديث: 15:27 (بيروت)

دومينيك شوفالييه: تأريخ مادي لبِلاد الشام

الأربعاء 2024/11/27
دومينيك شوفالييه: تأريخ مادي لبِلاد الشام
كان شوفالييه يجول العواصم الأوروبية والعربية لإلقاء المحاضرات ثم لإسداء المشورة لصنّاع القرار السياسي
increase حجم الخط decrease
في ظل ما شهده لبنان وتباين الخطابات السياسيّة بين المُوالين للمقاومة والمناهضين للحرب، بات ضرورياً العودُ إلى شبكة تحليلية تساعد في فهم هذه التوترات وتعود بها إلى جذورها الأصلية. ومن بين الوجوه الأكاديمية التي اشتغلت على لبنان، نستذكر المؤرخ الفرنسي دومينيك شوفالييه (1928-2008) الذي ترك رصيدًا ضخمًا، أشهره "مجتمع جبل لبنان إبان الثورة الصناعية الأوروبية"(1971) وهو في الأصل أطروحته للدكتوراه التي طبق فيها منهج التحليل الاجتماعي، حيث كانت الدراسات التاريخية وقتها متأثرة بالمقولات الماركسية، مركّزةً على تفكيك آليات الإنتاج وتأثيرها في البنى الفكرية. 

وسرعان ما انفتح هذا الأكاديمي على بقية دول الوطن العربي، شرقًا وغربًا، متناولًا قضايا حضور الإسلام وتأثيره في المجتمعات التي طالتها "الظاهرة الإسلامية" كما كان يحلو لمحمد أركون، زميله في جامعة السوربون الثالثة، أن يسمّيها. فقد كتب مع زميليْه الآخريْن أندري ميكاييل وعز الدين قلوز كتاب "العرب، الإسلام، وأوروبا(1991)، ثم مع محمد العزيز بن عاشور، الذي سبق أن أعدّ بإشرافه أطروحةً حول الفئات الاجتماعية في تونس خلال القرن التاسع عشر، "العرب: من الرسالة إلى التاريخ"(1995) . وختم الرجل مساره المعرفي الطويل بمحاولة تأملية في كتابه "شرق الحِبْر بين الحروب والسلطات" (2003).

وهكذا، تنوع إنتاجه مع أنه بقي مركزًا على قضايا التاريخ العربي المعاصر وتوتّرات ساحاته ضمن شبكة العلاقات والصراعات التي هزت الوطنَ العربي بعيد الاستقلال وقبله، مع أوروبا كمستعمر سابق ثم كجارٍ استراتيجي على الضفة الأخرى من البحر الأبيض المتوسط. وفي كل هذه الكتب، قارب شوفالييه الواقع العربي من منظور تاريخي، بحث فيه عن العلل المادية وما نجم عنها من تحولات تقدّماً وتراجعًا، وكل ذلك في تقاطعٍ مع إشكالية الاستقلال وتفكك الحكم العثماني وتأثير الإسلام كمكون من مكونات الهوية، قبل أن تظهر الأعمال الإرهابية التي غيّرت وجه العالم وأنتجت المقاربات الأمنية بعد هجمات 2001.

نشأ هذا الرجل في بيئة ميسورة؛ فقد كان والده طبيبًا، مما أكسبه مبادئ اللياقة والإتيكيت الاجتماعي. وهي مبادئ لازمته طيلة حياته وتجلت في معاملاته مع ضيوفه الذين كان يدعوهم إلى ندواته الأسبوعية من 1976 إلى 1997 في جامعة السوربون مساء كل ثلاثاء. كما نمّى لديه والداه حبَّ الفنون الجميلة والصنائع، التي رأى فيها التعبير العميق عن روح الشعوب وثقافاتها، مما خلق لديه ميلاً للانفتاح على الثقافات المغايرة، تلك التي أغنت أوروبا في القرون الوسطى بالفلسفة والفنون الدقيقة. التحق بجامعة السوربون شابًا، حيث درس التاريخ بعد الحرب العالمية الثانية التي عاش ويلاتها والتي انتهت، رغم الخيانات والمرارات، إلى إعادة اكتشاف القيم الجمهورية والحداثية التي طالما قادت أبحاثَه.

أقام شوفالييه لفترة في تونس خلال الستينيات، حيث عمل أستاذا محاضرًا واستكشف الديناميات ما بعد الاستعمار في دول المغرب. كما التحق لمدة سنة بإحدى الجامعات الاميركية، وقد أسهمت تنقلاته هذه في إنضاج نظرياته وتدقيق مفاهيمه التي كان يطلق عليها "التاريخ الاجتماعي وتطور العقليات".

وإلى جانب نشاطه الأكاديمي المحض، كان شوفالييه يجول العواصم الأوروبية والعربية لإلقاء المحاضرات ثم لإسداء المشورة لصنّاع القرار السياسي في أرفع دوائر السلطة؛ فقد عمل مستشارًا للرئيس الفرنسي فرانسوا ميتران، وهو ما يضفي شيئًا من الظلال على علميّة تحليلاته، إذ كان هو بنفسه مؤثراً في بعض الأحداث السياسية العربية، قريبًا من بعض الفاعلين الاجتماعيين فيها.

وبفضل ندوته الأسبوعية، كان صاحب الفضل في تكوين الجيل الأول من المستعربين الذين صاروا يشتغلون أساسًا على الميدان لا على النصوص، وعلى الواقع المعيش المشاهد لا على التراث النظري، وهو تحوّل كبير لا تزال آثاره تُلاحظ اليوم لدى عدد كبير من تلاميذه الذين يملأون المشهد الإعلامي والجامعي بعده، مثل جيل كيبال، آلان لور ديبون، الهادي بن منصور، جاك فريمو، وغيرهم عشرات. ولا ننسى الباحث اللبناني أحمد بيضون الذي أعد تحت إشرافه شهادة الدكتوراة.

فقد كان سيمنار الثلاثاء، بمثابة الصالون الأدبي والمنتدى السياسي، يرتاده الوزراء وكبار الضباط والأدباء والمفكرون من العالميْن العربي والغربي؛ تُتاح لهم الكلمة فيَروون شهاداتهم على العصر أو تجاربهم الخاصة، ثم يتلقون بعد ذلك أسئلة وتعليقات يجيبون عليها، وكان شوفالييه هو مَن يدير النقاش ببراعة عالية، مضيفًا إليها إضاءاته البارعة.

وفي الفترة الثانية من الندوة، يستعرض طلبته نتائجَ أعمالهم الجامعية ويواجهون أفكارهم بعضها ببعض، وهو ما يتيح إنضاجها. وهكذا، كانت هذه الندوة وما يُلقى خلالها أشبه بقوسيْن تُعاد ضمنهما صياغة العالم، فتُستقرأ أحداث الماضي ويُستشرف المستقبل. وبين الاستعادة والاستشراف تمتد التحليلات؛ بعضها علمي صارم، وجلها من آثار الالتزام الحزبي، والتحيز السياسي وفورة الشباب. وقد كانت تعقد في مركز تاريخ الإسلام المعاصر الذي بعثه في جامعة السوربون وأداره لسنين طويلة.

أخذ البعض على شوفالييه عدم إتقانه للغة العربية وعدم اشتغاله على النصوص التي صاغها مفكرو تلك الحقبة وساستها. إلا أن تَمرّسه في التاريخ الاجتماعي ومعرفته بعقليات تلك الفترة والأفكار السائدة فيها، من قومية وإصلاحية وسلفية واشتراكية، فضلاً عن تَضَلُّعِهِ في آليات العمل السياسي وعوامل الحرب الأهلية اللبنانية وما تخللها من مقولات طائفية وإيديولوجية، جعل من قراءة النصوص أمرًا ثانويًا. إذ ليست كل المحددات موجودة داخل الخطاب أو ثنايا الفكر، بل هي وليدة الميدان. وقد شكل هذا الموضوع محور بحثه الرئيسي الذي تناوله بفعالية. لكن، على كل حال، يؤكد الأستاذ أحمد بيضون، صديقه وتلميذه المقرب، أن معرفته باللغة العربية كانت كافية لقراءة الوثائق التي كان يشتغل عليها، وأنها لم تعقه عن إنجاز بحوثها بعمق ومعرفة، لا سيما في مرحلته الأولى.

إضافة إلى ذلك، عيب على شوفالييه النظر إلى التاريخ اللبناني من فوق، أي من منظور الرئاسة الفرنسية وإملاءات وزارة الخارجية، مما جعل معرفته إسقاطًا فوقيًا لمقولات الدبلوماسيين من وراء مكاتبهم، بعيدًا من الواقع اليومي الذي يعيشه المحاربون في خنادقهم أو المتآمرون في حلقاتهم السرية. وهذا نقد وجيه، لكنه لم يكن متاحًا له، بحكم مناصبه الإدارية والرسمية، أن ينزل أكثر إلى الميدان، على أنه التقط منه جل الإشارات، وبنى حوله نظرية قريبة إلى الصحة.

ما زلتُ أذكره عندما وصلت إلى باريس أواخر 1997، ببذلته الأنيقة وفصاحته البارعة، يلقي علينا المحاضرات حول التاريخ السياسي في العالم العربي. في كل مرة، كان يستدعي أحد الوزراء أو السفراء ليقدم إضاءات، وكانت القاعة تغص بالطلبة، وجلّهم من لبنان من ذوي الهيئة والوجاهة، يتلقّفون كل كلمة من تحليلاته الأصيلة التي امتزجت بأناقة لم تخفِ نظرة التعالي ولا آثار الوصاية التي كانت لفرنسا على لبنان، وإن في خفاء. 

increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها