يحتاج السوريون، بوصفهم جماعة بشرية مجروحة تعاني تبعات حرب مريعة، وانقساماً مجتمعياً هائلاً، إلى ضمادات معنوية دائماً!
قد يأتي الترياق الآني، عبر فوز منتخب النظام لكرة القدم، على فريق بائس في شرق آسيا، أو عبر حصول فيلم من إنتاج مؤسسة السينما صنعه المخرج جود سعيد، كالعادة، جائزة في مهرجان هامشي، وقد يأتي من خلال إنجازات هامشية، لفنانة تشكيلية تعيش في أوروبا!
وسط حالة النكوص نحو الذات، قد يجد البعض سلواه في اجترار التفاصيل. فالطبخ السوري بالنسبة إلى هؤلاء، هو الأول على العالم. كما أن الدراما هي بطاقة التميز، وأيضاً فإن "النكش" في الحضارات التي مرت بالمنطقة، يؤدي غالباً إلى تضخم الإحساس بالتفوق على الأقران.
يغيب عن هذه السلسلة من "الإستنجازات"، كل ما هو جوهري، يمس حياة الناس، بل إن الحديث عن الراهن غالباً ما يُقابل بالتبرم، باعتباره مثيراً للمشاكل والاشمئزاز. فالمطلوب هو البحث عن التميز، حتى وإن جاء في أصغر الأشياء وأتفهها!
(غلين شوارتز في موقع التنقيب)
آخر ما حُرر في اهتمامات جزء من السوريين، كان الخبر المنتشر عن اكتشاف ملفت، يمنح إحدى الحضارات، التي يصدفُ أنها نشأت في سوريا التاريخية، سبقاً على غيرها، ويقوم على "أبجدية" اكتُشفت تفاصيلها في العام 2004 بمنطقة "أمّ المَرا" في ريف حلب الشرقي، عبر بعثة أثرية مُشكّلة من فريق باحثين أوفدتهم جامعة جونز هوبكنز الأميركية، بقيادة البروفسور غلين شوارتز.
وفي حيثيات ما جرى، فإن التنقيب أدى إلى العثور على أسطوانات طينية محفور عليها كتابة أبجدية، قد تغير الحقائق المعروفة سابقاً عن تاريخ الألف باء حول العالم!
الفرضية التي تحدث عنها شوارتز، لم تظهر في أبحاثه الأولى التي نشرها العام 2010، بل هي نتاج دراسات حديثة أجراها مع فريقه، تتحدث عن أن الكتابة المكتشفة هي أقدم بنحو 500 سنة من الأبجدية السينائية الأولية التي تعتبر الأقدم والأساس وتعود إلى (1900-1500 ق.م). وبالتالي فإنها أقدم أيضاً من الأبجدية الأوغاريتية: الشهيرة والمؤرخة بين (1500-1300 ق.م). ومن الفينيقية التي تعود إلى (حوالى 1200 ق.م).
وقد أجرى فريق العمل فحوصاً كربونية، للتأكد من صحة التاريخ المفترض لمكتشفاته، ودأب أفراده، وعلى رأسهم الباحث شوارتز، على الحديث عن خطواتهم نحو إثبات الفرضية. وقاموا بنشر التفاصيل، غير مرة، في مجلات علمية، لا سيما منها تلك التابعة لجامعتهم. حيث يشير الموقع، إلى أن أول
إعلان تفصيلي جرى نشره في صيف العام 2021، وآخر ما أعلن عنه، كان قبل أيام، إذ نشرت البعثة أن شوارتز سيقوم بمشاركة "اكتشافه" (يوم الخميس الماضي)، مع أعضاء الاجتماع السنوي لجمعية الأبحاث الخارجية الأميركية.
(اكتشافات في موقع "أم المرا")
من الطبيعي، وفي ظل الاضطراب السائد في المنطقة، أن تصبح الفرضيات الأولية التي تحتاج إلى تمحيص وإثبات وإقرار، شبه مبرمة، طالما أن هاجس المواقع الإخبارية والصحف وغيرها، هو الحصول على سبق ما. كما أن الاختلاف على أي تفصيل، حتى وإن كان تافهاً، يتحول إلى "ترند" في شبكات التواصل الاجتماعي، فكيف إذا كان هذا الأمر هو "انتصار حضاري" من نوع ما ينتصر فيه سوريون على مصريين ولبنانيين؟!
وسط المنشورات الكثيفة عن هذا الإنجاز، والمغالاة في تقييمه من دون تبين الحقائق، حاول بعض العالمين بآليات البحث الآثاري العلمي، أن يفرملوا شعور كثيرين بأن الريادة السورية الحضارية، عبر الحديث عن صنعهم الأبجدية الأولى، قد أمست مثبتة. لكن الأصوات المتعقلة وسط الضجيج تضطر للتراجع إلى الخلف وسط انفعال الجموع.
غير أن انتظار جلاء الحقيقة، تعثّر هذه المرة، بإعلان مقتضب، على شكل بيان صادر عن مديرية الآثار والمتاحف التابعة لوزارة الثقافة، فنفى أن يكون الاكتشاف الذي تم تداوله عبر وسائل الإعلام المحلية والعالمية في منطقة تل أم المرا شرقي حلب، "أبجدية"، وأنه مجرد فرضية نشرها عالم الآثار الذي عمل ضمن بعثة أميركية في الموقع المذكور، في كتاب له العام 2010، وأعيد تداولها مؤخراً من دون وجود تنقيبات حديثة في الموقع المذكور. وأعقب البيان بتصريح لمدير عام مديرية الآثار والمتاحف، محمد نظير عوض، قال فيه "إن مثل هذه الدراسات تحتاج لوقت كبير لإثباتها وأن ما تم نشره غير دقيق".
هنا، يتوقف المتابعون، عند التصريح الرسمي للمؤسسة المعنية بمثل هذه التفاصيل، في البلاد. فهي الجهة التي منحت فريق الباحثين رخصة التنقيب سابقاً، وهي التي يفترض بها متابعة تطورات البحث العلمي الذي يعقب الاكتشافات الأركيولوجية! ليكتشف هؤلاء بأن إدارتها، تستقي معلوماتها مما ينشر في الإعلام، وأنها لا ترغب في وضع جمع الباحثين المهتمين بالأمر، ولا حتى الجمهور السوري، أمام صورة واضحة وتفصيلية عما يقوم به الفريق الأميركي الذي بات يشرح للجمعيات العلمية الأهم حول العالم، النتائج التي توصل إليها.
نفي المديرية، يظهر للآخرين وكأنه إنكار العالمِ بالأمر، غير المهتم بما يقولونه، لكنه في جانب آخر، هو نفي يتشاوف على المهتمين، ويكاد يتهم البعثة العلمية الأميركية بالتسرع، وعدم الجدارة العلمية! فإذا كان هذا هو رد المديرية على هؤلاء، فالسؤال الذي يرد تالياً هو: إذا كنتم لا تتابعون نتائج التنقيبات، ولا تعتقدون بجدارة فرق التنقيب، فلماذا تمنحونهم رخصاً لكشف ما تحتويه المواقع الآثارية تحت ترابها؟
الجانب الآخر لرد الفعل هذا، يتصل ربما برغبة الجانب الرسمي السوري في عدم إبراز أي علاقة مع الأميركيين، والتقليل من شأن مساهماتهم في كشف جوانب حضارية تتصل بتاريخ المنطقة، وبما يتسق مع محاولات البعض في نسب خبر الاكتشاف ذاته إلى وكالة أخبار روسية!
لكن المشكلة التي يقع فيها المسؤولون السوريون، لا تتعلق بما يتوجب عليهم أن يظهروه، بحسب السياسات الرسمية للنظام الذي يتبعون له، بل بأنهم يقدمون أنفسهم أمام الجمهور المتشوق للحصول على نياشين الريادة، كجَهلة غير عارفين بما يجري. وبدلاً من أن يؤدي التصريح إلى إحالة النتائج إلى دراسات علمية متعمقة، فإنه يفتح الباب على مصارعيه أمام تأويلات أخرى تأخذ معطياتها من افتراضات منتشرة هنا وهناك.
التعليقات
التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها