السبت 2024/11/23

آخر تحديث: 11:47 (بيروت)

"بيدرو بارامو"...عودة الواقعية السحرية

السبت 2024/11/23
"بيدرو بارامو"...عودة الواقعية السحرية
يبتعد المخرج عن الإيقاعات والصيغ الأكثر شعبية لدى جمهور المنصّات
increase حجم الخط decrease
سواء كان هذا مصادفة أو استراتيجية تجارية لمواكبة المنافسة، فقد عادت الواقعية السحرية، أقوى من أي وقت مضى، مع حفنة من التعديلات السمعية والبصرية التي تهدّد باحتكار خوارزميات منصّات البث لبضعة أشهر. حالياً، تُعرض نسخة تلفزيونية جديدة من رواية "كالماء للشوكولاتة" للمكسيكية لورا إسكيفيل في وقت الذروة على قناة HBO، وخلال الأسابيع المقبلة سيصدر مسلسلان قصيران استناداً إلى روايتي "مائة عام من العزلة" (نتفليكس) و"بيت الأرواح" (برايم أمازون)، لغابرييل غارثيا ماركيث وإيزابيل الليندي على التوالي.

والحقيقة أن "نتفليكس" خرجت من بوابات البداية أولاً مع فيلمها الجديد "بيدور بارامو"، المستند إلى الرواية الشهيرة بالعنوان ذاته للمكسيكي أيضاً خوان رولفو، وهي منشورة في الأصل العام 1955 ويعتبرها الكثيرون السلف العظيم لأدب "الواقعية السحرية"، مثلما طفرته في أميركا اللاتينية بشكل عام، حتى صار هذا النوع مقترناً بأدب القارة. الاقتباس السينمائي الجديد يأتي بعد أكثر من نصف قرن على نسخة فاشلة بتوقيع كارلوس فيلو (شهد عرضها مهرجان كانّ السينمائي في العام 1967) ندّد بها الأصدقاء والغرباء.

نظراً لأشكاله السردية، التي تنسج الزمان والمكان وعالم الأحياء مع عالم الموتى ، فإن نصّ رولفو ليس من السهل إحضاره إلى المجال السمعي البصري. في أول ظهور له كمخرج، بدعم من سيناريو للإسباني ماتيو خيل، يبتعد مدير التصوير رودريغو برييتو - الذي تضمّ أعماله السينمائية أعمالاً شهيرة في أفلام مارتن سكورسيزي وأليخاندرو غونزاليس إيناريتو وغريتا غيرويغ وبن أفليك، من بين آخرين - عن الإيقاعات والصيغ الأكثر شعبية لدى جمهور المنصّات ويحاول الاقتراب أكثر من "جوهر وروح" الرواية؛ أي محاولة إعادة إنشاء أسلوبها بأدوات السينما مع احترام أصوات الرواة المختلفين للنصّ الأصلي، وخاصة صوت الشابّ خوان بريثيادو وبيدرو بارامو نفسه. إلى ذلك، أعيدت إلى الحياة مدينة كومالا ومحيطها (جزئياً على مجموعات وبنسبٍ مماثلة بفضل الأدوات الرقمية)، خلال سنوات حرب كريستيرو (عشرينيات القرن العشرين) وبعد بضعة عقود من الزمان. أعيدت إلى الشاشة بحمولتها من التقاليد والعنف والخيانة السياسية والإنسانية.


كما هو معروف، فالقصة تبدأ من احتضار والدة خوان بريثيادو التي توصيه بالذهاب إلى كومالا، حيث يمكنه مقابلة والده بيدرو بارامو. الرحلة التي يبدأها بريثيادو ليست في المكان فحسب، بل في الزمن أيضاً. تُهجر البلدة للغبار والفقر، ويستقبل الشابّ أولاً امرأة (شبح) ثم أخرى، ويتبيّن لهما بشكلٍ غامض أنهما تعرفانه وتخبرانه قصة البلدة وبيدرو بارامو: الرجل الذي تمكّن، من خلال الفساد والعنف، أن يصبح سيّد كومالا، ويحصل على السلطة ويفلت من العقاب.

لقاء بريثيادو (تينوش هويرتا) في مكانٍ شبه مهجور ومحادثاته الأولى مع الموتى هناك، تلتزم بالرنين السحري للرواية، مع جماليات ونبرة تذكّرنا بسينما الويسترن والرومانسية القوطية، بما في ذلك رعب النوعين؛ كما في زوجته الشبح التي تحوّلت طيناً، وصراخ رجل مشنوق منذ سنوات ما زال صداه يتردد في جدران العلية. هذه هي المقاطع الأكثر تحدياً بصرياً، حيث يسير استخدام "الليل الأميركي" التقليدي جنباً إلى جنب تأثيرات الصور المولّدة بالكومبيوتر (CGI) لإضفاء الحياة على سحابة من الأجساد العارية. عندما تنتقل القصّة إلى صوت وذكريات الأبّ، مالك الأرض وصانع القانون الضمني للمكان، والانتقال من الطفولة إلى الشيخوخة - مع تحوّل امرأة إلى زوجة مستعبَدة وتهديد ثوّار يطرقون الباب - يتكيّف الفيلم مع سرد أكثر تقليدية إلى حد ما.

النتيجة؟ فيلم غريب، متفاوت في أكثر من جانب، ينجح في بعض الأحيان في خلق جوّ قوي قريب من نصّ رولفو، وفي أحيان أخرى يبدو مجرد توضيح لبعض مقاطعه البارزة. يقدّم مانويل غارسيا رولفو (علاقته بخوان رولفو بعيدة، لكنها حقيقية: كان جدّ الممثل عمّ الكاتب) أداءً مدروساً كرجلٍ ذي موارد قليلة أثناء شبابه، والذي، بفضل مثابرته وضراوته في إدارة أراضيه وأراضي الآخرين، بالإضافة إلى شغفه المرعب بالنساء، يبني إمبراطورية صغيرة من دون أن يعرف أن أسسها لن تكون قادرة على دعمه أبداً بسبب شخصيته الفاسدة وتسلّطه. ذلك "الامتعاض الحيّ"، حسب تعريف رولفو، سيأتيه الموت على حين غرّة وبلا سابق إنذار، في إيماءة رمزية إلى جوهر معيّن للذكر المكسيكي الذي يرفض الموت.


increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها