كي تكون فناناً كبيراً، يكفيك أن تخلص لفنك وتمنحه من روحك، ما يضمن لمنجزك الفنّي بقاء مستداماً في الذاكرة الجمعية لمتلقيك. أما أن تكون فناناً عظيماً، فلا بد أن تقرن خلود فنك بجلال موقفك وبليغ أثرك، فهذا هو الذي يمنحك المهابة والإجلال، ويزين اسمك بذلك الاحترام وربما القدسية أيضاً. عشرات الأسماء استطاعت أن تترك وراءها منجزات فنية تشهد لها بالنبوغ والتفرد، لكن قلة كانت صاحبة مواقف ناصعة وتأثير واضح تجاوز حدود الفنّ، أو قل أنهم استظلوا بإبداعهم وهم يعبّرون عن آرائهم ومنطلقاتهم. واحدة من هؤلاء بكل تأكيد كانت جارة القمر فيروز.
لم تكن أم زياد الساكنة في القلوب تحت اسم "فيروز" مجرد مطربة كرّست من عمرها التسعيني ما يزيد على سبعة عقود متعبدة ناسكة في محراب الفن، وإنما حملت كذلك فوق صوتها وعبر مواقفها، تاريخ أمة شاءت لها الأقدار الدائمة والدامية أيضاً أن تمر بكثير من الأزمات والمحن والأوقات المفصلية التي لم يكن من الممكن معها مواربة المواقف وتمييع الرؤى. فجهرت من دون طنطنة، وذهبت هنا وهناك من دون ادعاء بطولة، وأشهرت حنجرتها سيفاً في وجه من هم على الطرف الآخر منها، أو على النقيض مما استقر بداخلها من يقين مهما كلفها ذلك، أو جرّ عليها من معارك لا تتفق مع شخصيتها الوديعة.
ولا بد لفيروز وهي تتم تسعينيتها أن تكون قد استعادت في مخيلتها وأمام ناظريها ضجيج معاركها وعديد مواقفها، وعلى رأسها الملف الفلسطيني بكل ما تركه فيها وفي رفيقَي النجاح الأخوين رحباني، من جرح غائر انعكس عليهم غناء وسلوكاً ومواقف معلنة، وكيف كانت زيارتاها المهمتان لمدينة القدس في خريف وشتاء 1963 - 1964 ملهمتَين لثلاثتهما في كثير من أغنيات الجرح الفلسطيني.
كانت جارة القمر قد دُعيت لإحياء حفلتين في مسرح المدرج الروماني في العاصمة الأردنية عمّان، في 26 و27 أيلول 1963، فوقفت تغني وهي تشم بقلبها رائحة جدران البلدة القديمة في القدس الواقعة آنذاك تحت الإدارة الأردنية بعدما احتلت إسرائيل الشطر الغربي من المدينة المقدسة إبان نكبة 1948: "أغنيتي إليك، على ذرى القدس أنا أصلي، يا رب فاذكر وطني وأهلي". وفي غداة انتهاء استحقاق حفلتي عمّان، عبَرت فيروز والأخوان رحباني ومديرهم الفني صبري الشريف ابن مدينة يافا الفلسطينية، نهر الأردن نحو ضفته الغربية، وبالتحديد إلى مدينة القدس في أولى زيارتين للمدينة المقدسة. وهناك زارت كنيسة القيامة والحرم القدسي وبقية الأماكن المقدسة، قبل أن تلبي والوفد المرافق دعوة السيد داود أبو غزالة، محافظ القدس، إلى لقاء تكريمي في فندق الكابيتول بالقدس الشرقية، لكنها لم تغن هناك وإنما اقتصرت الزيارة على السير في طرق البلدة القديمة وزيارة الأماكن المقدسة وبعض المراسم البروتوكولية.
وفي أثناء تلك الزيارة طلب منها الحاضرون أن تعود إلى القدس مرة أخرى لترتل في أعياد الميلاد بعد ثلاثة أشهر، لكنها اعتذرت حسبما نقلت عنها الصحافة الأردنية قائلة: "لا أستطيع أن أعبّر لكم عن سروري بزيارتي لبلادكم العزيزة التي أزورها للمرة الأولى في حياتي. وكنت أود أن ألبي دعوتكم بالحضور إلى القدس في عيد الميلاد المجيد، أو عيد الفصح لأشترك في الصلوات والتراتيل.. لكني نذرت أن أصلي هذه الصلوات في كنيسة أنطلياس كل سنة... وأنطلياس هي مدينة عاصي زوجي، وأقيم معه هناك".
لكن بعد ثلاثة أشهر على تلك الزيارة، حدث ما كانت تظنه فيروز أمراً صعباً، فقد قرّر بابا الفاتيكان بولس السادس زيارة الأماكن المقدسة والصلاة فى كنيستي المهد والقيامة، وهناك في 4 كانون الثاني 1964 كانت فيروز تنتظر الحبر الأعظم على طريق الجلجلة في درب الآلام وبالتحديد في منطقة الجثمانية، حيث رتلت أثناء سير الموكب "أنا الأم الحزينة". ثم زار البابا كنيسة القيامة، وفي اليوم التالي زار مدينة الناصرة داخل فلسطين المحتلة من دون أن تصحبه فيروز. وفي اليوم الثالث، زار مدينة بيت لحم وترأس قداساً في مغارة المذود حيث ولد السيد المسيح. أما فيروز التي حلّت ضيفة على السيد مصطفى إبو غربية في مدينة رام الله، فبعدما رتلت في طريق الآلام في اليوم الأول، رتلت في اليوم التالي في ساحة باب العمود، وكان من المفترض أن ترتل في اليوم الثالث أمام بابا الفاتيكان في كنيسة المهد ترتيلة "شوبحو لهو" السيريانية، أي "سبحان الكلمة" لكن الاحتفال ألغي في اللحظة الأخيرة لتعود فيروز بعدها إلى بيروت محملة بكثير من الذكريات العطرة عن القدس العتيقة وشوارعها وحاراتها، وتلك السيدة التي أهدتها مزهرية ظلت تحتفظ بها. أما الصحافة اللبنانية فقد استحسنت تمثيل فيروز لوطنها لبنان في ذلك الحدث الجليل، وأكدت أنها ساهمت في ترداد اسم بلدها حول العالم على ألسنة الملايين الذين تابعوا زيارة الحبر الأعظم.
وكشف عاصي رحباني، أن المونسينيور يوحنا مارون، والشاعر سعيد عقل، كانا وراء ترتيب تلك الزيارة المقدسة، وأنه رافق فيروز بالعزف على آلة "الأرمنيوم" فيما صاحبها في الترتيل مئة راهب من رهبان فرقة معهد الروح القدس "الكسليك" بقيادة الأب يوسف الخوري. فيما عبرت فيروز عن شعورها بالرهبة أثناء قيامها بالترتيل، وأنها لم تكن تشعر ببرودة الجو وإنما تملّكها إحساس بأنها في عالم آخر. وبعد أشهر عديدة من تلك الزيارة، قدّمت فيروز والرحابنة واحدة من أشهر أغنياتها، تأثراً بتلك الزيارة ومشاهداتهم هناك، وهي "القدس العتيقة" التي سُجلت العام 1965 وغنتها فيروز للمرة الأولى في حفلة في سينما الزهراء في مدينة الكويت، العام لتالي، ثم في معرض دمشق في العام نفسه. وبطبيعة الحال لم تكن تلك الأغنية هي الوحيدة التي شدت بها فيروز من أجل القضية، فتكفيها درتها الخالدة "زهرة المدائن" التي أذيعت للمرة الأولى في آب 1967 بعد أسابيع من هزيمة حزيران، إلى جانب عشرات الأغنيات والصور الغنائية الأخرى التي ضمّ بعضها شريط "القدس في البال".
وربما هذا ما حدا بالشاعر الفلسطيني محمود درويش للتأكيد عبر مقال له في "اليوم السابع" (6 تشرين الثاني 1986)، على أن أياً من الفنانين العرب والأجانب لم يقدم للقضية الفلسطينية كمّاً ونوعاً قدر ما قدمه الرحابنة بصوت فيروز، وحتى أكثر مما قدمه الفلسطينيون أنفسهم للقضية. وهو أيضاً ما دعا وفداً مقدسياً مكوناً من النائبين إميل غوري ومحيي الدين الحسيني، ونساء من بيت لحم، إلى إهداء فيروز والشقيقين منصور وعاصي مفتاح مدينة القدس، المصنوع من خشب شجرة الزيتون المباركة، وصينية من الصدف مصنوعة فى مدينة مهد السيد المسيح. وفي المناسبة ألقى منصور رحباني كلمة مؤثرة، جاء فيها: "باسم فيروز ومنصور وعاصي وكل من ساهم معنا، أقول لكم شكراً. إن كل ما أعطيناه واجب بل هو أقل من واجب، إن هو إلا شعور داخلي، شعور ينبع من هول المأساة التي زلزلتنا، ولو أن الغناء يكون صامتاً لكان أجدر بنا أن نغني صامتين، لكنه صراخ الحق تفجر غناء، إن لقاءنا بكم اليوم عهد نجدده بأننا لن نتوقف عن الغناء".
التعليقات
التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها