لكن، هل كان لها أن تحلم بالزواج من شاعر؟ الشاعر الذي تزوجته كان بعيدًا من سان جون بيرس؛ فقد كان قاسيًا، شبه وحش في أحلامه وشعره. لم يحب الحياة التأملية، ولم تكن شعريته تقوم على الرمزية. كان صخبًا التفتت إليه، فأصبح حنجرته االتي كثيرًا ما نادت بها أمها وأبيها دون أن يستمع إليها أحد. كان المتمرد في صوته وشكله بديلاً عن الأب المفقود في وجدانها، وعن الأم التي لم تكن تملك سمعًا أو صوتًا واضحًا.
سنية كانت تبحث عن العاطفة التي فقدتها، وتجدها في إدمانٍ آخر؛ فكان الحزن والصمت والسوداوية في الكتابة إدمانًا أو تعويضًا. فالبشر قد لا يستمعون، لكنهم يقرأون. شيءٌ من تردّي الحياة وقسوة الطفولة وجد طريقه إلى الورقة والقلم، ليُفضيا إلى تناول الحياة وسردها. يمكن أن نفهم سنية وفقًا لريكور، حين يكون السرد غفرانًا ومسامحة، وآلية للنجاة. كل شعر سنية هو سرد للصفح عن الحياة وفهم لقسوتها.
"ثمّة عويلٌ يربط قلبي بحنجرة الأرض،
والزبد صوتي الضائع.
قد تكون ثيابي مُزيّفة،
ولآلئي مُزيّفة،
قد يكون كل ما في العالم
مخادعًا ومزيّفًا،
إلا دموعي.
أنا المرأة ذات الأعوام المُسنّنة
أنزف كجندي بُتر رأسه،
وأنا أذهب وأجيء وراء النوافذ العالية
كأميرة تستعدّ للهرب
بعد أن أفسد الذعر فرحي وطفولتي".
كانت الصيرورة الوجودية تفتح لسنية آفاقًا متعددة، لكن يبدو أن الزواج أعاق تلك الصيرورة وحوّلها إلى شكل أعمق من الألم. التمرد الوحيد الذي استطاعت التعبير من خلاله عن حزنها كان الشعر، وربما كان ندمها هو الشعر نفسه بكل ما يحمله من عدمية وسوداوية. لقد استهواها أن تكتب فقط، ومن خلال شعرها تُشركك سنية في حياتها؛ حتى في قصائدها لأولادها نجد أنها قد نقلت لنا أيضًا ما عاشته. عشنا معها كل ما أرادت أن تقوله.
"الصغار ينتحبون على ركب الأمهات
المهانات في الغرف المعلقة كالصناديق
على حافة الظلام،
بين أقوام يغوصون حتى الركب في المجاعات،
يبصقون على الخصب وقد تنكر لهم،
يبصقون على الأسرة
أدمنوا النوم في العراء.
الصغار يدفنون رؤوسهم في نوافذ الأولياء،
تتأرجح صررهم،
بعضها يسقط،
والباقي لا يشبع كلاب الطريق.
أما أنا يا ابنتي،
فقد كنت أدفن نفسي في الظلام وأبكي،
أية وحدة تأتيك تحت الغطاء!
بين أقوام يغوصون حتى الركب
توحشوا من الجوع والقسوة،
غرفهم تتأرجح
يملؤها هدير بشري غامض
نوافذهم تمزّق الظلام".
لماذا نُدمن شيئًا ما؟ لأننا فقدنا شيئًا عاطفيًا حادًا. عالم النفس البريطاني دونالد وينيكوت، يقول إن رعاية أمومية جيدة تمنع حصول إدمان حاد. سنية فقدت أمها باكرًا، ثم فقدت الأب، ولم يتبقَ لها إلا أن يتراءى لها صخب الماغوط، الذي كان بديلاً عن كل شيء من الممكن فقدانه. كان ذلك أشبه بـ"غش الحب"، وهو السياق الذي قد يمنحنا النجاة لفترة قصيرة. هذه الخيبة تحولت إلى مذهب، رومانسية حادة تلمّ الذات المقهورة في النصوص، ثم المرض الذي سيحوّل مذهبها الكتابي إلى مزيجٍ بين الرومانسية وولادة المذهب الطبيعي في الكتابة النسوية.
يقول نوفاليس للأخوين شليغل: "أنت دائمًا فردي، وهو تاريخي وعام". حسب خالدة، بدأت سنية الكتابة منذ أن كانت في الجامعة؛ فقد وُلد الشعر معها باكرًا. الجسد النحيل والقوي في آن واحد كتب الشعر وافتتن بسان جون بيرس، وكان القريب الآخر أدونيس، الذي ترجم سان جون بيرس وإيف بونفوا. هذا ما أشعل فيها افتتانًا بالغنائية والسرد النثري القصير، لكن بروح التأمل والطبيعة، والرمزية في التعامل مع الذات والحياة. كانت سنية موهبة فذة منذ ديوانها الأول، الذي اقترن بحيوات رجلها – الماغوط – المعتقل والهارب، وبحياة الرجال الأحرار المنكوبين بالهزائم.
يشير جورج طرابيشي إلى مرحلة الأدب في الستينيات العربية، وخفوت الأصوات النسائية التي كانت تنضج في الخمسينيات. لكن بحلول الستينيات والسبعينيات، قامت الحركات الأدبية والسياسية بشراسة بقضم الأصوات النسائية. وكل امرأة لامعة تحولت إلى صيدٍ ذكي لرجلٍ ما. هذا لم يقتصر على الأدب فقط، بل شمل الفنانات والكاتبات أيضًا. وكان نصيب سنية أن يكون الماغوط زوجًا لها.
درجات الانضباط التي فرضها المجتمع والسياسيون جعلت الكاتبات ملاحقات أو يدُرن في فلك السيطرة الذكورية، أحيانًا بشكل مخفف وأحيانًا بشكل مشدد. كذلك، لم تمنح المؤسسات العامة مجالًا أوسع للنساء، فتمت ممارسة ثلاث تقنيات عامة في إبعاد المرأة وصوتها عن الحركة العامة للأدب. الأولى كانت الإقصاء النفسي، الذي نتج عن الانحياز الاجتماعي الذكوري، والطابع السياسي الذي ظل الذكور يهيمنون عليه. ثانيًا، العنف الرمزي الناتج عن العادات والتقاليد. وأخيرًا، ممارسة تجليات عقدة الانصياع اللاواعي، التي كانت مطلوبة من المرأة.
هذا ما يظهر في ملاحظة مهمة لشوقي بزيع، وجدها في حوار بين الماغوط وسنية صالح في إحدى الصحف. عندما سأل الماغوط سنية عن أهمية ما تكتبه في ظل واقع مرير مليء بالفقر والقهر والجوع، حيث حمل سؤاله شيئًا من الاستخفاف بكتابة سنية، ولو بشكل مبطن.
لم نُدرك، نحن ولا الماغوط، الطبيعة الرومانسية الخاصة بسنية في الكتابة إلا متأخرًا. فبينما عبّر الماغوط عن سخطه على المجتمع والواقع بصورة شعرية واضحة وصاخبة، تعالت سنية عن الاشتراك في الشؤون العامة، رافضةً المجتمع بسردٍ خاص وسحري. لم تمِل سنية كغيرها من شعراء النثر إلى إبراز قضايا يومية مُلحة، بل أضافت تفلسفًا خاصًا عبر صورها المفارقة للمعاني الإنسانية. لم تسخط على السلطان أو الحكام أو القساوسة، بل نفتهم تمامًا من شعرها.
"أيها الغرباء التائهون،
أيها الباحثون عن كنوز الموتى،
ومناجم الخراب،
صمتًا...
صغاري منثورون في صقيع الحفر.
أشُمُّ رائحَةَ احتراقي
آتيةً من غابة الموت،
آتيةً تَهدِرُ على الدروب.
وأنا وحدي الضحية.
ماذا تفعل في الحرب؟
أهرب.
أغني مثل غراب.
أمرض.
ربما أموت.
وأنت؟
ألتصق أكثر وأكثر بمن أحب".
كانت سنية تدرك أن قضايا المرأة في حد ذاتها لم تكن ذات جاذبية كبيرة في ذلك الوقت. كانت درجات القهر تُعمم على الجميع، فظهرت الخطوط النسوية الأولى في الكتابة الأدبية وتمت إعادة قراءتها بهذا الشكل. على سبيل المثال، أسلوب سنية في جعل مركزية الكتابة بصوت وهم أنثوي، وبرومانسية حادة، يُنقل فيه العذاب الأنثوي إلى بُعد أكثر شمولًا. الكثيرون لم يُفرّقوا في أسلوب سنية بين تجليات الرمزية والروح التأملية، والتي ظهرت بأسلوب مفارق؛ حيث تجلت ذاتها في النص عبر رؤى كونية.
ملامح فهم سنية صالح تُدَرك من خلال شعرها، ومن بعض المذكرات والكتب عن حياتها. لا يمكن الاكتفاء بذكر عشر قصائد لفهم سنية بعمق. فالموت، كصورة شعرية، كان دائمًا مرتبطًا بالطبيعة، والظلمة، وتواجد الذات الوحيدة والمنعزلة. تخلق قصائدها عالمًا خاصًا، ورغم وضوح بعض الصور الحزينة والرمزية، إلا أن كتابتها تطرح دائمًا أسئلة ميتافيزيقية، تتجاوز اليومي والسطحي.
يمكن تأمل شعر سنية كما نتأمل سفر الرؤيا؛ فكل كلمة في نصها تتحول إلى تجربة إنسانية، حتى وإن كانت آتية من وجع وألم أو واقعية مأسوية. احتجاجها الأليم على الحياة هو ذاته الأذى الذي لحق بآدم بعد سقوطه في الأرض. حزن سنية لا يتصاعد بوصفه حزنها وحدها، بل هو حزنٌ يواجه الزمن، الوحدة، وأنواع الفرح الشاقة التي قد تنتقل لإسعاد الأطفال وتنسيان الذات.
ورغم صلابة المذهب الرومانسي في شعر سنية، إلا أن ملامح المذهب الطبيعي تبرز بوضوح أيضًا. كان الإنسان بتفاصيله وعذاباته، وخاصة في فترة المرض، هو محور الكتابة؛ حيث التصقت قصائدها بواقعية طبيعية تواجه الموت بدون أملٍ مخيالي. في شعرها يظهر الدمُ، والأسود، والخريف، والتعب، والعجز، وكثيرًا ما كانت مواجهتها مع الطبيعة، بما فيها من فيزياء قاسية وآليمة تُتعب الجسد وتُجبر المخيلة على مواجهة الواقع.
لكن حياة شاعرَين معًا تجعل السرد ينحاز غالبًا للبحث عن سيرتهما المشتركة، أو سيرة الأكثر شهرة بينهما. ولأن شخصية سنية تميل إلى الظل، فقد تم إخفاؤها في كثير من الأحيان، أو تحويلها إلى مجرد ملحق لزوجها. الماغوط، الذي لم يكن عاثر الحظ، اختار سنية لينفي عن نفسه ماضٍ من البؤس، ثم شعور بالامتنان لهذا الحب. في حياتهما الظاهرية، كانت سنية تقدّم له ديوانًا، فتحدثت عن بؤسه، بينما تحدث هو عن قوتها. كانت بمثابة الأم له، لكنها لم تستعد يومًا أباها أو أمها فيه. كانت أمًا لفترة كافية ليستعيد هو بريقه وقوته، لكن عقدة الناجي ظلت تلازمه ولم يخرج منها أبدًا.
الحديث عن الثنائي سنية صالح والماغوط يرتبط دائماً بالعذاب، وكأنه أدب متأخر بحوالي ستين عاماً عن تلك العذابات التي عاشها ممثلو الشعر حينما كانوا منخرطين في المثاليات العقلية والرومانسية الإنسانية. إلا أن سنية عاشت أوقاتاً طويلة من القهر حينما كانت تكتب رومانسية مؤلمة تنطلق من الفرد، على عكس الماغوط الذي كثيراً ما أُلبس ثوب الثورة، ليس فقط في الشعر بل في الكتابة السياسية أيضاً. هذا الثوب كان واسعاً إلى الحد الذي اختفت فيه سنية.
حياة سنية، التي توصف بالحزن والبؤس، تجددت في بؤس جديد خلال فترة هروب الماغوط، حيث كانت ترفده داخل تلك الغرفة المغلقة. الماغوط، على الرغم من تغير أحواله الاقتصادية وشهرته، لم يستطع أن يجدد من سلوكياته النفسية. بقي في حالة نفسية مدارها "الناجي"، الذي رغم نجاته من الفقر والبؤس، لم يصدق هذا التحول. لم تستطع الشهرة أو الراحة المادية أن تجدد أحواله، أو حتى شعره، فبقي مغترباً عن كل ما هو جديد في حياته، مستمراً في حالة من التخيلات والرعب والهواجس.
هذه التأرجحات النفسية التي عاشها الماغوط كان لها تأثير قاسٍ على سنية. تأرجحه النفسي لم يكن منقذاً لها، بل جعلها أكثر التصاقاً بماضيها الصعب. ومع ذلك، ظلت سنية وفية لتفتحها الشعري، ولطريقتها في السرد والقصيدة المتأملة الرمزية. قصائدها كانت تحاكي دلالات الموت والحزن والمأساة في سياق عالمي، وليس فقط ذاتي. الفارق في القصيدة هو في الشخص ذاته؛ اتساقه وقدرته على استكشاف الشعر بطريقة تقنية ثابتة. فإن كان الماغوط أسيراً لماضيه، فإن سنية، رغم ارتباطها بماضيها، بقيت أكثر جمالية وإيلاماً شعرياً، مستمرة في اكتشاف الذات الإنسانية الغنائية والدرامية.
الميزة الأكبر لسنية هي أنها حافظت على أمانة أدبية شعورية، متسقة مع الداخل، بينما بقي الماغوط مشدوداً لسيرة الماضي التائه رغم كل التغيرات التي أصابته. أما سنية، فقد ظلت متعلقة بشعرية ترتبط فيها الحياة اليومية بأسرار الحياة الكبرى، من دون انفكاك. فهي تقدم درساً طويلاً في شعرها حول معالم الرومانسية بدءاً من فصول الطبيعة، بخريفها وحدادها ووحدتها، وتفاصيل الليل والنور والظلمة. قصائدها مليئة بالأسى الوجودي الذي لا يقتصر فقط على الطفولة أو الأمومة أو الأبوة، بل يمتد إلى وجودها ومعايرة الحياة ككل.
رغم أهمية سنية الشعرية، فإن الكثير من أعمالها بقي طي النسيان أو لم تُسلط عليه الأضواء الكافية، رغم أنها قدمت دواوين شديدة الاختلاف والأهمية في الأدب العربي. أجزاء من سيرتها وأعمالها تظهر في مقدمات كتب أو مقابلات، لكن حضورها الشعري ما زال بحاجة إلى تسليط ضوء أكبر عليه كإسهام جليل، وليس إسهاماً متعلقاً بآخر أو مقارناً بآخر. حتى أننا في غالبنا مصابون بما يمكن ترجمته نفسياً بالعظمة المنعكسة، كأن نخاف انتقاد أو التقليل من الماغوط، والتبرير له أخلاقياً، وبذلك نُخفي أثر سنية أو نجعلها ملحقاً برجل قاسي لكنه عظيم، ونخاف من رهبة أدبه. الأسوأ هو نقدنا وقراءتنا التي تنسى وتخاف من شعرية سنية وتميل لسهولة الماغوط وأثره، فكان الماغوط، كرجل، خافياً لسنية، لا بوصفه شاعراً أبداً.
التعليقات
التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها