تربط الشاعرة والرسامة إتيل عدنان، بالكاتب فواز طرابلسي، علاقة مديدة تختلف في تفاصيلها عن كل القصص التي ربطت بين الكاتبات والكتاب، وعلى مدى عقود شكلت الثقافة رابطاً بينهما، لم يعرف فتورا أو تراجعاً، وبقي طرابلسي وفياً لتلك السيدة التي شكلت حياتها وأعمالها ظاهرة، حظيت باهتمام الأوساط الثقافية في فرنسا والولايات المتحدة، وبعض البلدان العربية، وخصوصاً في بيروت حيث ولدت العام 1925 لأب سوري وأمّ يونانية، وتعود أصولها إلى مدينة أزمير التي آلت إلى تركيا، بعدما كانت مدينة يونانية تحمل اسم سميرنا، قبل الحرب العالمية الأولى.
بعد رحيلها في تشرين الثاني 2022، خصص لها طرابلسي كتاباً صدر الصيف الماضي عن دار رياض نجيب الريس، بعنوان "إتيل عدنان في الحب واللغة، نصوص وأشعار"، ويضم نصوصاً كانت قد اختارتها الشاعرة والرسامة للنشر في مجلة "بدايات" التي أسسها طرابلسي وتولى رئاسة تحريرها لمدة عشر سنوات ما بين 2012 و2022. وكتب مقدمة للكتاب يضيء فيها على تلك النصوص التي تحكي "قصة الأب وأيام الطفولة في بيروت، وتتأمل في الكتابة بلغة أجنبية، وتتحدث عن قصورنا أمام كلفة الحب. وفي الشعر، تحضر بيروت وبعلبك واثنان من شعراء إتيل المفضلين، فلاديمير ماياكوفسكي وبابلو نيرودا، ومن فن التقطير اقتطف مقطوعتين عن الليل والموت. وفي الختام نشر آخر مقابلة أجراها معها قبل الوفاة بأسبوعين، ويقول طرابلسي: "أرادتها بمثابة وصيتها عن الفلسفة والفن والأدب والحياة والموت".
يقول طرابلسي في المقدمة "كلما أعجبني نص لإتيل، أترجمه"، لا سيما أنها كانت لا تبخل في تزويده بنصوصها، وهو لم يكن يتأخر في نقلها إلى العربية، لكن العلاقة تتجاوز الرغبة المشتركة في نقل النص إلى العربية، فالكاتبة لم تكن بالأريحية ذاتها مع أي مترجم آخر، وظرابلسي لم يتعامل مع أي نص كاتب آخر بالقدر نفسه من الاهتمام والحب: "مارستُ ترجمة إتيل بما هي فعل حب ورغبة في الاستحواذ"، ويفسر ذلك بما يضمره المترجم عادة من "شهوة مكبوتة ومراوغة" تجاه النص في أن يكون هو كاتبه. ورغم أن هذا التعليل يجتهد لأن يوضح سر انشغال طرابلسي بأعمال إتيل، فإن المغزى أبعد من ذلك، وهو يذهب نحو تلك الصداقة بينهما والتي بدأت من جانب طرابلسي عندما تعرف في زمن بعيد على قصة للكاتبة فازت في مسابقة، بينما كان لا يزال على مقاعد الدراسة، ومنذ ذلك الحين بات "مدمناً على أدب إتيل وفن إتيل وصداقة إتيل". وتشرح الرسائل المتبادلة بينهما ما يفلت من التفسير في حمولته المباشرة. ويظهر ذلك من خلال النصوص التي نشرتها إتيل في كتاب (مدن ونساء، رسائل إلى فواز) صدر بالإنكليزية، ونقله طرابلسي إلى العربية، وصدر عن دار النهار، ورسائله إليها التي نشر بعضها في "ملحق النهار". ويغلب عليها طابع اليوميات الوجودية، أو حول كوابيس الحرب مثل "يوم القيامة العربي" أو "ست ماري روز"، التي تنسج فيها عدنان وتسجل إدراكها لماضٍ ثقيل.
يعكس الكتاب التعدد في شخصية إتيل، الذي يذهب في أكثر من طريق. هي كاتبة ورسامة. لبنانية، سورية، يونانية، عربية، أميركية، فرنسية، وكونية..إلخ. متعددة الهويات والثقافات والبلدان، وبقدر ما يشكل هذا كله تنوعاً وثراء وسعة أفق، ويظهر في أعمالها الفنية ونصوصها، فإنه يحضر على شكل معاناة من إزدواجية الانتماء التي فرضت عليها خيارات الجغرافية، ولم تترك لها حرية التشكل في بيئة عادية. فالأب سوري ضابط في الجيش العثماني، والأم يونانية من أزمير. درست وعاشت في فرنسا والولايات المتحدة، وأقامت ورحلت في باريس. وعبر مسارها الزمني المديد بقيت مشدودة إلى هذه العوالم بقوة خيط الولادة في أكثر من مكان، وخصوصاً أرض الأب والأم. هي ابنة شمس الشرق والزرقة المتوسطية التي ولد منها أول ديوان شعري لها (كتاب البحر)، قبل أن تبلغ العشرين من عمرها، وتحلق بعيداً من مسقط الرأس الذي بدأت منه رحلة فقه الكون، عبر دراسة الفلسفة في جامعة السوربون، والعمل بتدريسها في سان فرانسيسكو.
الحوار الأخير بين طرابلسي وإتيل، أرادته وصية أخيرة تتلوها في حضرة أقرب الأصدقاء إليها، لأنها توفيت بعد ذلك بأسبوعين عن 96 عاماً. تحدثت وهي تعاني من آلام شديدة في الساقين، كي تلخص: القول الشعر، التفسير والتحليل نثر، اللون إرادة القوة في المادة، الصوفي هو من يقول قال لي. هذا ما شغلها طيلة حياتها، وشكل اسلوب تعبيرها في الشكل والمضمون، من خلال اللغة واللون، ومن أجل إيصال الفكرة حتى تتجلى وتتجرد في صفائها. تحدثت عن نيتشة والله والألم، تكلمت عن الألم بصيغة الماضي وهو حاضر. لا تفكر بالموت إلا عندما يحضر الألم. القسوة هي ألا يموت الكائن بسهولة، فوق الموت هناك الألم. أرادت للشعر أن يتحرر، البداية شعر والخاتمة شعر، وتسجل أن النقاد الأميركيين اعتبروها أدخلت الفلسفة إلى الشعر الأميركي. اعترفت أنها عانت من آلام الساقين إلى حد أنها طلبت من الطبيب أن يحقنها بحقنة كي تختفي.
التعليقات
التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها