- بصفتك متخصصًا في تقديم الإسعافات الأولية للآثار، كيف تعرف هذه الوظيفة وما أهميتها في ظل التحديات التي تواجهها المنطقة؟
* الإسعافات الأولية للآثار تعد علمًا مشابهًا لعلم الإسعافات الأولية للبشر، حيث يركز على توثيق الأثر والحفاظ على حالته الراهنة ومنع المزيد من الأضرار حتى يتم ترميمه بشكل كامل. ويشمل ذلك الآثار المادية مثل المباني والقطع المتحفية والأرشيفات.
واجهت المنطقة العربية تحديات جسيمة على مدار السبعين عامًا الماضية، إذ تعاني العديد من الدول من صراعات سياسية وإرهاب منظم، مما أثر بشكل كبير في التراث الثقافي، سواء كان ملموسًا أو غير ملموس. لذا، يبرز سؤال مهم: هل نحن بحاجة إلى علم الإسعافات الأولية في هذا السياق؟ الجواب هو بالتأكيد نعم.
تأتي الحاجة إلى هذا العلم في ظل نقص الدعم المالي المخصص للترميم، بالإضافة إلى ضيق الوقت المتاح لعمليات الترميم بسبب الصراعات المستمرة لأكثر من عشر سنوات، دون أي بصيص أمل لنهايتها. من المستحيل البدء في ترميم شامل أو حتى جزئي لمبنى يقع في منطقة نزاع أو يتعرض للضرر يوميًا، ما يجعل الاستثمارات في الترميم تبدو كأنها تضيع سدى، في ظل عدم توافر الموارد. الدول التي تعاني من هذه الصراعات تمر أيضًا بأزمات اقتصادية، مما يعزز أهمية تقديم خدمات إسعافية عاجلة لحماية التراث، وذلك لتثبيت حالة هذا التراث ومواجهة التهديدات التي تتعرض لها.
- في ضوء الأحداث الأخيرة في لبنان، ما المخاطر التي تتهدد آثار بعلبك، وكيف يمكن تقييم الأضرار التي لحقت بها؟
* لفهم الضرر الواقع على التراث اللبناني، سواء في بعلبك أو أي منطقة أخرى مستهدفة من الغارات الإسرائيلية، يمكننا النظر إلى ما جرى في غزة منذ أكتوبر الماضي. كان التراث من أكثر الأشياء تضررًا نتيجة العدوان، مما يشير إلى أنه مستهدف رئيسي في النزاعات بالمنطقة. لذا، فإن الضرر المتوقع في بعلبك ومناطق لبنانية أخرى يستدعي منا متابعة ما حدث في غزة، لأن العدو وفكره الاستراتيجي واحد في سعيه لمسح هوية الشعب.
عندما يُستهدف التراث، فإن ذلك يؤثر بشكل أعمق في روح الأمة مقارنةً بتدمير منشآت مثل المطارات أو محطات الكهرباء. لذلك، يتطلب تقييم الأضرار في التراث عملية مستمرة، خصوصاً في ظل النزاعات المتصلة. ويجب الاعتماد على التكنولوجيا الحديثة، مثل التصوير الجوي والأقمار الاصطناعية، بجانب جهود الأفراد المتواجدين في المنطقة لتوثيق الأضرار. يمكن استخدام الصور المنشورة في السوشال ميديا مع الكلمات المفتاحية لإنشاء خرائط للأضرار. كما أن دور المنظمات الدولية والدول الكبرى، التي تمتلك أقمارًا اصطناعية، يعدّ ضروريًا لتقديم الدعم السريع في تقييم الضرر.
وهنا أطالب الأشخاص الذين ينشرون الصور في السوشال ميديا لضرورة توثيقها، بذكر موعد التقاطها والموقع الذي التقطت فيه.
- كيف تقارن بين الأضرار التي لحقت بآثار بعلبك والأضرار التي تعرضت لها آثار العراق؟ هل هناك أوجه تشابه أو اختلاف؟
* لكي أتمكن من معالجة منطقة تراثية أو أثرية تضررت، يجب أن يكون لدي توثيق دقيق للمحددات التاريخية والشكل القديم للمدينة والقيم التي بُني عليها هذا التراث. من الضروري أيضًا معرفة العناصر الإنشائية ومدى الحاجة إلى الحرف اليدوية أو التراثية في إعادة البناء.
عند مقارنة الضرر الناتج عن النزاعات، سواء كانت دولية أو أهلية، يجب أن نفهم الهدف من تدمير الأثر: هل كان عشوائيًا أم استراتيجيًا؟ هذا الفهم يؤثر بشكل كبير في عملية إعادة الإعمار. على سبيل المثال، عند الحفاظ على مدينة قديمة، يجب مراعاة الشكل العمراني والعلاقة المجتمعية والنشاطات الأثرية، مع الربط بين التراث المادي وغير المادي. ينبغي استغلال كل عنصر لتحسين المنطقة وفق مبدأ "Build Back Better"، مما يجعلها أكثر صمودًا أمام المخاطر المستقبلية.
وعند النظر إلى الدول التي تعاني من النزاعات مثل العراق ولبنان وليبيا واليمن والسودان، نجد أن التأثير في التراث واحد، حيث يُمحى كل أثر يدل على هوية هذه المجتمعات. وفي هذا السياق، يبرز تصريح مهم لدونالد ترامب، أثناء فترته الرئاسية، في معرض تعليقه على الأزمة مع إيران، حين قال: "إذا استمرت إيران في برنامجها النووي، فإننا سنستهدف التراث الثقافي الإيراني". هذا التصريح يوضح أن التراث الثقافي يُعد من الأهداف الرئيسة في النزاعات المسلحة.
خلال تدريباتنا، نعرض صورًا لمناطق تراثية منكوبة في الوطن العربي ونطلب من المشاركين تحديد مواقعها، وغالبًا ما يواجهون صعوبة في ذلك. يعود السبب إلى تشابه الأضرار والأشكال، مما يدل على أن التأثير والهدف من تدمير الهوية العربية متشابهان. لذلك لا أحتاج التنبؤ بشكل الضرر المتوقع للمناطق الأثرية اللبنانية، فقط علي أدير رأسي للخلف فأنظر لغزة أو لغيرها من المناطق العربية التي شهدت نكبات.
- ما التحديات الرئيسة التي تواجه عملية ترميم الآثار في منطقة الشرق الأوسط، بشكل عام، وفي لبنان، بشكل خاص؟
* أولًا، يجب أن يكون لدينا توثيق شامل يعكس حالة الأثر قبل تعرضه للضرر. هل أملك الوثائق اللازمة التي تضمن فهمي لشكل الأثر وطريقة صناعته؟ هذا أمر بالغ الأهمية لنجاح عملية الترميم والحفاظ على قيمته.
ثانيًا، يتواجد الأثر المتضرر غالبًا في مجتمعات تأثرت أيضًا، مما يجعل أولوية إعادة بناء المجتمع والبنية التحتية الأساسية مثل المياه والكهرباء، تتفوق أحيانًا على الحفاظ على التراث. غالبًا ما نجد أن الأفراد الذين يفتقرون إلى الوعي بقيمة التراث كجزء من هويتهم، يفضلون تلبية احتياجاتهم الفورية، مما يضعنا أمام تحدٍ في تحديد الأولويات بين استقرار المجتمع والحفاظ على هويته الثقافية.
ثالثًا، هناك مشكلة نقص التمويل المخصص للتراث. وأخيرًا، يجب أن نتأكد من وجود كفاءات قادرة على التخطيط والإدارة والتنفيذ بشكل دقيق، مما يتطلب مستوى معين من التدريب والتأهيل لصياغة رؤية استراتيجية موحدة.
- كيف يمكن تحقيق العمل بعِلم الإسعافات الأولية في لبنان، وما مدى توافر الكفاءات والموارد اللازمة لذلك؟
* قمنا بتدريب فرق في معظم الدول العربية، ولبنان ليس له حظ كبير من التدريب مثل العراق واليمن، رغم أنه شهد بعض التدريب. غير أن لبنان يتمتع بمعرفة قوية في مجال الآثار والتخصصات ذات الصلة، ويحتاج فقط إلى بعض التأهيل في الإسعافات الأولية. لكننا لن نبدأ من الصفر، الكفاءات موجودة في لبنان وأيضاً العِلم.
- ما المؤسسات العربية والدولية التي تعمل في مجال حماية التراث، وكيف يمكنها دعم لبنان في هذه الظروف؟
* هناك مؤسسات عديدة، مثل المؤسسة المصرية لإنقاذ التراث في القاهرة والمراكز الإقليمية الفاعلة في مجال التراث الثقافي، مثل المركز الإقليمي للتراث في البحرين، وأيكروم الشارقة، ومنظمة الألكسو ومنظمة الإسيسكو، تعمل جميعها على تعزيز الجهود في هذا المجال. وعلى الصعيد الدولي، تشمل اليونيسكو ومنظماتها التابعة مثل الإيكروم والأيكم والإيكموس.
لكن يجب أن ننتبه إلى أولوياتنا؛ هل هي لبنان، فلسطين، اليمن، مصر، ليبيا، السودان، أم العراق؟ الهموم كبيرة والتأثيرات عميقة، في حين أن التمويل محدود. لذا، من الضروري إنشاء لجنة عربية لتحديد وتوزيع هذه الأولويات، كما لو كان لدينا شخص مسؤول عن 30 طفلًا بموازنة محدودة، مما يستدعي مساعدات حقيقية مبنية على احتياجات أولية.
- هل يمكن للمجتمع الدولي أن يساهم في حماية آثار لبنان من الانتهاكات، وما هي الإجراءات المتخذة في هذا السياق؟
* هل اتُخذت إجراءات بشأن ما حدث في الموصل خلال فترة داعش؟ لم يحدث ذلك.
لفهم توجهات هذه المنظمات، يجب أن ننظر إلى تجارب سابقة مشابهة للبنان ونرى كيف ساعدت المؤسسات في تلك الحالات، مع العلم أن قدرتها على المساعدة في لبنان ستكون محدودة.
هنا، العدو يمتلك قوة أكبر؛ فرغم أن داعش مصنفة كإرهابية، فإن إسرائيل ليست كذلك، مما يعيق الكثير من المنظمات عن اتخاذ أي قرار ضد انتهاكاتها.
ومع ذلك، يمكن للمؤسسات الدولية المساعدة. كانت هناك جامعات وبعثات أجنبية نشطة في الدول المنكوبة، ولديها معلومات قيمة عن التراث. إذا تم إنشاء قاعدة بيانات مشتركة، ستساعد في توثيق التراث وتقييمه، مما يسهم في عمليات الترميم والإسعافات الأولية، وتحديد الموازنات اللازمة. يجب أن نبدأ بإسعافات أولية تحافظ على التراث وتمنع تدهوره حتى تتاح الإمكانيات للترميم الشامل.
- ماذا عن توثيق الآثار المدمرة؟ كيف يمكن أن يساهم ذلك في إعادة بناء الهوية الثقافية؟
* إذا كانت لديك وثيقة متكاملة لمكان ما فقد إلى الأرض، فإن القرار لا ينبع فقط من المنظمات الدولية، بل أيضًا من المجتمع المحلي المتعلق بهذا التراث. لننظر إلى تجربة جسر موستار في البوسنة، الذي دمر خلال الحرب. اتخذ المجتمع قرارًا بإعادة بنائه بالشكل القديم وبمعرفته التقليدية، لأنه يحمل رمزية كبيرة لهم.
هذا يوضح أن إعادة البناء ليست مجرد استعادة للأثر، بل أيضًا للحفاظ على رمزيته وقيمته بالنسبة للمجتمع. أحيانًا، يكون الهدف هو حماية رمزية معينة تهم المجتمع بشكل خاص.
- هل هكذا يفقد قيمته كأثر؟
* عندما يُدمر موقع ما بشكل متعمد، فإنه قد يفقد بعضاً من قيمته، لكن يظل يحتفظ بقيمته الجمالية والمجتمعية. على سبيل المثال، المباني الدينية ما زالت تحافظ على قيمتها الروحية.
عندك مكتبة الإسكندرية المسجلة كأثر رغم أن بناءها أعيد بالكامل، لأنها تمثل رمزًا لنشر العلم وتعكس إرثًا تاريخيًا. صحيح أنها بنيت بأسلوب حديث، لكنها تحمل رمزية قوية.
أحيانًا نحتاج إلى الحفاظ على الأطلال باستخدام تقنيات حديثة مثل نظام البروجيكشن أو النمذجة ثلاثية الأبعاد (3D Modeling) السؤال هنا: هل لدينا التوثيق الكافي لتحقيق ذلك؟ وهل هذه التقنيات كافية للحفاظ على التاريخ ونقل المعرفة المفقودة نتيجة الحرب؟ هذه قضايا مهمة يجب أن يحددها المجتمع المحلي بدعم من المجتمع الدولي.
- ما النماذج الحديثة المستخدمة في الترميم وإعادة البناء؟
* عندما يكون هناك نزاع نشط في منطقة ما، يصبح الترميم وتقديم الإسعافات الأولية خلال الضرر مهمة صعبة، خصوصاً إذا كان الضرر ناتجًا عن عدوان.
الحل الأنسب في هذه الحالة هو توثيق الوضع الراهن للأثر أو التراث المتضرر. التوثيق التقليدي يتطلب وقتًا طويلًا، وهنا تبرز أهمية التكنولوجيا الحديثة. يمكن استخدام تقنيات مثل المسح بالليزر ثلاثي الأبعاد، والصور الجوية، بالإضافة إلى الطائرات من دون طيار للحصول على صور شاملة، مما يتيح حرية الحركة دون تعريض الأفراد للخطر.
توفر هذه التكنولوجيا وقتًا وأمانًا، وتساعد في توثيق الأثر قبل فقدانه. في حال حدوث أي ضرر، ستمكننا هذه الوثائق ليس فقط من إعادة البناء والحفاظ على التراث، وإنما أيضًا عرض الكيفية التي استهدف من خلالها العدو جمال هذا الأثر وتاريخه.
- ما أبرز التوصيات لحماية آثار بعلبك وغيرها من المواقع الأثرية في المنطقة للأجيال القادمة؟
* سننتقل الآن من علم الإسعافات الأولية إلى علم إدارة المخاطر. إذا كان لدي أثر مهدد، فإن احتمالية تعرضه للضرر تكون مؤكدة. هنا، أحتاج إلى اتباع بعض المعايير، أولًا التوثيق، ثم زيادة الوضوح، بمعنى أنه يجب أن يكون واضحًا أن الموقع خالٍ من الأنشطة العسكرية، وأن يٌعرض على المجتمع الدولي بسرعة، مما يساعد على تقليل استهدافه ويضغط على العدو قانونيًا. وثالثًا تأمين الموقع، فالخطر الرئيسي هو القصف الجوي أو المدفعي. يمكن اتخاذ تدابير مثل بناء حواجز، واستخدام مواد متاحة مثل أكياس الرمل لتقليل تأثير الموجة الانفجارية على الأثر.
اشترك معنا في نشرة المدن الدورية لتبقى على اتصال دائم بالحدث
التعليقات
التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها