ما يسترعي الانتباه في الحرب الإسرائيليّة على لبنان كمّيّة اللغو لدى الساسة وتفنّنهم في توصيف همجيّة العدوّ ولا إنسانيَته وخرقه لكلّ ما أرسته المواثيق الدوليّة من قواعد لخوض الحروب. ويترسّب هذا اللغو كلّه لا في المقابلات والتغطيات على وسائل الإعلام التقليديّة فحسب، بل في تغريدات يوميّة تكاد لا تُعدّ ولا تحصى، حتّى إنّك تخال أنّ العمل السياسيّ بامتياز بات التغريد عوضاً عن التشريع، وتنميق الألفاظ الطنّانة والعبارات الرنّانة بدلاً من اتّخاذ القرارات التي تستجيب للحظة التاريخيّة التي يمرّ بها البلد.
ثمّة بين اللبنانيّين تضامن هائل يذكّر بمشهديّة 17 تشرين، ويتحدّى كلّ الكلام الذي صمّ به بعض السياسيّين آذاننا عن الشعب المنقسم طائفيّاً. وثمّة أجراس كنائس تُقرع لضابط مسلم بطل من ضبّاط الجيش اللبنانيّ قتلته إسرائيل عمداً. وثمّة على الحدود الجنوبيّة مَن يخوض معارك حقيقيّة ويتصدّى بصلابة لأشرس آلة موت عرفها القرن الواحد والعشرون. أمّا ساسة لبنان، فالجليّ أنّهم قرّروا خوض الحرب عبر الاستنجاد بكلّ ما تنطوي عليه ترسانة اللغة العربيّة الملهَمة من التشابيه والاستعارات والكنايات ولزوم ما لا يلزم. واللافت أنّ هؤلاء الساسة، بدلاً من أن يجترحوا تحرّكاً واحداً من خارج الصندوق، أو يطلعوا بفكرة واحدة جريئة تساهم في إنهاء المأساة التي يعيشها البلد، آثروا أن ينخرطوا في الحرب عبر الكلامولوجيا المثقوبة والإسهاب في توصيف بربريّة العدوّ وصلافته وتوحّشه عوضاً عن محاسبة الذات والمسارعة إلى تغيير السلوك، بما يسهّل كسر هذه الحلقة المفرغة التي يدور فيها البلد منذ شهور، أو قل منذ سنوات، لكن خصوصاً منذ بدء الحرب.
ما الجديد في القول إنّ إسرائيل مجرمة وإنّ قادتها يرتكبون الفظائع في لبنان بعدما ارتكبوها في غزّة وفلسطين عموماً؟ لا شيء طبعاً. نحن أمام موضوع إنشاء لا يستحقّ عشرة على عشرين يضاف إلى مئات المطوّلات اللغويّة التي لا تقلّ عنه سوءاً. طبعاً، هذا ليس حطّاً من قيمة اللغة. لكنّ اللغو هو نقيض اللغة، لأنّه مصاب بآفة اللامعنى. حين نستخدم الكلمات كي لا نقول شيئاً، تفقد اللغة أصالتها وتتحوّل إلى ما لا يشبه اللغة في شيء ما عدا التقارب الصوتيّ الخارجيّ. وليس من باب الصدفة أنّ لغتنا العبقريّة سمّت هذا الذي يشبه اللغة، لكنّه ليس بلغة، سمّته "لغواً". وساسة لبنان مصابون في غالبيّتهم بآفة اللغو، لا لأنّهم يستعذبون صفّ العبارات الخاوية فحسب، بل لأنّهم عاجزون عن القرار، عن الفعل، عن الإتيان بفكرة إبداعيّة واحدة، عن قول الحقيقة بلا مواربة، عن دفع الأمور في اتّجاه خواتيمها. خمس الشعب اللبنانيّ نازح، قرى مدمّرة، آلاف القتلى والجرحى، وهم ما زالوا يتلهّون بالمرثيّات والشعارات التي لا تسمن من جوع، ويحاولون التعويض عن عجزهم بالبلاغيّات والمجازيّات والفذلكات اللغويّة.
هل العجز وحده هو السبب؟ طبعاً لا. ثمّة ما هو أعمق، اسمه التفاهة وصغر النفس. وثمّة ما هو أكثر عمقاً، عنوانه خوف الساسة من انهيار الأرض التي يقفون عليها وتهافت الأبراج التي يتطلّعون منها إلى الناس المشرّدين ممعنين في ازدرائهم وامتهانهم. وثمّة الرجاء أن يخرج الأرنب مجدّداً من القبّعة، فيعقدون مع الدول العظمى صفقةً جديدةً تتيح لهم المحافظة على مناصبهم وامتيازاتهم وزبائنيّتهم على حساب الدولة وكرامات الناس. ثمن الكلام الفارغ مفضوح، إذاً، والمعادلة التي تتحكّم فيه واضحة. لقد انهار كلّ شيء. ولم يبقَ للساسة إلّا حماية عائلاتهم وجيوبهم وخزائن الذهب التي في قصورهم. وفي انتظار أن تتّضح الصورة ويتبدّى ما إذا كان المرجوّ حقيقيةً أم سراباً، نسمع جعجعةً ولا نرى طحناً (رحم الله توفيق يوسف عوّاد)، ولا يبقى لنا إلّا اللغو.
التعليقات
التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها