المدينة تنام باكراً، ولطالما كان هذا دأبها. النظام المعمول به في فصل الصيف ينتهي مفعوله مع موجات البرد الأولى. ينفلت الناس صيفاً. يجلسون في المقاهي المفتوحة على سماء تعبق برائحة النراجيل. هذه الرائحة لم نعهدها قبلاً، حين كان التنباك العجمي سيداً، إلى أن احتلت مكانه أنواع أخرى من التبغ نفّاذة الرائحة، ودخانها لا يُطاق، لمن لا يجد في النارجيلة سلوى ومتعة، بل ضيفاً ثقيلاً.
ما زالت المدينة تنام باكراً، أو أقلّه يختفي ضجيجها، الخافت أصلاً في هذه الأيام. المساحة، شبه الرحبة، الحاصلة في الحاسة السمعيّة، نتيجة خمود حركة الناس، تملأها الآن أصوات انفجارات عميقة تطاول أطراف السهل. قلق مقيم في بعلبك من أن وحوش الجو قد تستهدف يوماً وسط المدينة، بعدما فعلت في أطرافها ما شاءت. زارت الطائرات بلدة بلوداي أكثر بكثير من زياراتي الخاصة القليلة لها. لا شأن لي في هذه البلدة، الواقعة على بعد كيلومترات قليلة غربي بعلبك. أصدقاء عديدون يسكنون بلدة طاريا، وكنت زرتها مراراً. لم تسلم بيوت أصحابي تماماً من القصف، لكنهم بقيوا أحياء، ما عدا صديق واحد لم يحالفه الحظ. لا سبيل لتعزية ذويه في هذه الفترة. الذهاب إلى طاريا يشبه صعود درجات مقصلة ينتظر نصلها أول زائر.
مع نهاية الصيف، اختفت رائحة التنباك المعسّل المذكور، لتحل محلّه رائحة البارود. من كُتب له، لسوء حظّه، العيش في زاوية معينة كانت هدفاً لحميم الطائرات، لم يسلم إلاّ بمعجزة. صادفتُ اليوم صديقاً يسكن بلدة دورس. كنت سمعت أن بيته قد "تضرر". أفادني بأن البيت الكبير صار كومة ركام، لكنه نجا مع عائلته لأنهم تركوا المحلّة. تحدّث الناجون عن تلك الرائحة التي يخلّفها انفجار الصواريخ. نذكر أن رائحة مماثلة كانت اخترقت أنوفنا في تموز 2006، لكنها كانت أقلّ حدّة. تطوّرت تقنيات القتل، وتطوّرت أيضاً رائحته. ترافق ذلك كلّه مع الدمار. دمار لم نرَ مثيلاً له سوى في الصور التي وثقت مجريات الحروب الكبرى، وبقايا المدن، التي تلقت قنابل كانت بدائية، في ذلك الوقت، قياساً إلى القنابل التي يلقيها، هذه الأيام، الطيارون الخارجون من نصوص التلمود.
سيكون خراب.. سيكون خراب.. سيكون خراب، قال مظفّر النواب. لم يقصد الشاعر مكاناً معيناً. كان كمن يستشرف الآتي من أيام هذه الأمة البائسة. خراب في كل اتجاه، وبحسب الموقع الذي يصلح من أجل إطلاق الصفة عليه. ليس هناك ما هو أقدر من الحرب على صناعة الخراب. "ليس هناك مجد في الحرب. هناك فقط الخراب والدماء والوفيات والدمار"، كما يفيد الكاتب الكندي موريس غانيون.
يقول المؤرخ الفرنسي ستيفان ميشونو "إن القوة الاستفزازية للدمار هي ذات شقين: فهي رمز للمقاومة في وجه العدو، وهي أيضًا رمز لمن استشهد تحت هذا الدمار. يمكن الجمع بين البطولة ومعاناة الإيذاء. إذا كانت أطلال كاتدرائية كوفنتري تغذي التمثيل البطولي للموقف البريطاني أثناء الحرب، فإن تلك الموجودة في ألمانيا، بل وأكثر من ذلك في اليابان، تطور نمطًا من الإيذاء يتمحور حول المعاناة الناجمة عن التفجيرات الضخمة. لكن هذه الرؤية أيضًا تصالحية من حيث أنها تمجد سياسة الحميمية والألم التي تغطي القضايا السياسية لحروب الأمس". في هذا المجال، لا بد، أيضاً، من ذكر ما قاله الشاعر البريطاني وليم وردوورث حين كتب: "تتجلى القوة – السلطة في التدمير بسهولة أكثر بكثير منها في الخلق".
هذا الخراب لا يكون دائماً "خراب حرب"، ويجب التمييز بين أنواعه. "الخراب"، في الواقع، يكون نتيجة لمفاعيل الزمن، وهو ثمرة التحلل البطيء للمواد. إنه يشهد على ماضٍ، ويشير إلى فترة زمنيّة طويلة الأمد. قد نرى أطلالاً زخرفية، تغزوها النباتات التي تزيد من جماليتها، والتي قد يتم اختزالها أحيانًا إلى عنصر زخرفي بسيط. صور هذا الخراب مغرية، وتسمح للمرء بالانغماس في التأمل واليقظة والحزن. هذا، وإن الزمانيات ليست واحدة ولا التمثيلات الأيقونية التي تنتج منها.
من ناحية أخرى، فإن "خراب الحرب"، الماثل أمامنا في الجنوب وضاحية بيروت وبعض مناطق البقاع، هو نتيجة الانفجار الوحشي والمفاجئ للمادة، التي تنقسم وتتشظى وتسحق وتلتوي. إنه يشهد على الحاضر، ويحث على معايشة زمن قصير. هذا الخراب هو نتيجة تحطيم واضح، وعنف يمارسه الإنسان (عدو الأنسان في حالتنا) على المبنى بواسطة صاروخ تلفظه طائرة أو مدفع (صار دقة قديمة) أو المتفجرات. ينتج من ذلك إعادة التركيز على المواد (الهياكل الحجرية أو الخشبية أو الحديدية)، وعلى الركام، وعلى الفواصل المرئية التي تجعل من الممكن حساب حالة هيكل المبنى، أو على نطاق أوسع مجموعة من المساكن والمباني والمنشآت، التي تدفع معاينتها المرء إلى الشعور بالحزن والعجز، والغضب والنقمة أيضاً.
التعليقات
التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها