تحت شحوب الفقراءْ
ثروتنا بَيض قُرى وبرغلُ
مسرحنا الوحول والثّرى
نصبُّ لحناً يُشترى...
تلعب في ربابةٍ أصابعي
أحفرُ صدرها العتيقْ،
أغنيةً تموجُ في الحنوِّ
نمشي على الطّريقْ،
ونبردُ!
من هذه النّماذج، نعود لنركّز هيئة أساسيّة لما سيعرف في حينه بالحداثة وقصيدة النّثر، ألا وهي الارتباط الوثيق، في التّعبير والتّخيّل والتّقييم، بين الشّاعر، الموضوع الأوحد للنّص، وعناصر حياته اليوميّة وتركيبة لغته المحكيّة والعاميّة. إذ إنّه من الصّحيح عروضيّاً، زجُّ قصائد كهذه في خانة شِعر التّفعيلة أو كما يُطلق عليه أيضاً بالشِعر الحرّ. بيد أنّ هذه الخلط ما بين التّطوّر العروضيّ لهيئة القصيدة الكلاسيكيّة وتفكيك البحور الخليليّة كوحدة قياس للإيقاع حتّى الوصول إلى تفعيلة واحدة مع جوازاتها من جهّة، ومن جهّة أخرى، مع ثورةٌ راديكاليّة على نظم التّعبير والملاحظة والتّفاعل مع العالم، وهو ما جاءت به الحداثة الشِّعريّة العربيّة مع شعراء قصيدة النّثر وليس مع النّوع بحدّ ذاته، يدلّ على ضياع القارئ واحتكامه أإلى سلطات نقديّة وأكاديميّة ديكتاتوريّة في فصل هذه المزج الكثيف. إن من يقرأ "أكياس الفقراء"، غافلاً عن مسيرة شوقي أبي شقرا الطّويلة، يغفل عن انتماء القصائد جميعها إلى شِعر التّفعيلة، لما تقدّمه هذه الأخيرة من خيالٍ وترابط بين العناصر اليوميّة، أقرب إلى الصّدفة، واللّغة المرنة الرّاقصة.
شوقي أبي شقرا يسكب خياله على الصّمت فتنبتُ الكلمات ويلعب فيها الإيقاع، ببساطةِ الابتسام.
بطل الفقراء
في خطّةٍ ذكيّة منه، ليشيّد لغته الشّعرية ويبرّرها ضمنيّاً للقارئ، نصّبَ شوقي أبي شقرا بنفسه ديوانه الأوّل بطلًا على الفقراء. لا يعمد شوقي بهذا الاختيار إلى الدّخول في معمعة إيديولوجيّة أو تنظيريّة، فالفقراء معه، يُبقون على هويّتهم الاجتماعيّة والاقتصاديّة الفريدة، لكنّه يكرّسهم على أنّهم الشّخصية البطل في الحياة اليوميّة. وهذه اليوميّة، لا يُدخلها أبي شقرا على قصائده من باب اللّغة عبر مفرداتها ("شبعانةٍ"، "نَكْمُشُ"،"العتيق") والصّوتيات ("كوكو") وتراكيب جُملها ("أدوخ من أرجوحة التّراب"، "وقعتْ أسناني"، "أبدأ في الحانوت بالمطرقة"، "لنقلّ حنجرةً واحدةً: كلّنا نحن سكارى وصراصير نغنّي في شقوق اللّيل والعمر المسنِ")، بل أيضاً عبر أعين أولئك الفقراء. فهؤلاء، مع شوقي، يصبحون نقطة التقاء كلّ العناصر الطّبيعيّة والحيوانيّة والميتافيزيقيّة التي تخاط منها الصّور الشّعريّة ويفنّد من خلالها الوجود الإنسانيّ. فعلاقة أبي شقرا مع الحصان والأرنب والفأرة، لا تتّسم بالقدر الكافي من الاكتشاف والاندهاش بالقدر الذي تكشف لنا عن أدوات تعبير عن حالات وجوديّة. فيصبح بذلك الأرنب ظلّاً للسرعة، والحمار حماسة الضّحك، والفرس جسد العمر.
ولا تخرج من تراكيب هذه الصّورة البديعيّة رمزيّة شِعريّة بالمعنى العلميّ، إنّما ترتسم في ذهن القارئ مشهديّة متحرّكة تحت أوامره هو، تبعاً للمساحة التي يتركها له الشاعر. إضافة إلى ذلك، تشكّل هذه الحركة، بالتوازي مع الإيقاع الذي سلّطنا الضوء عليه سابقاً، هيكليّة لنصّ شوقي أبي شقرا الشِّعري. ومن هذا التّلاحم الوثيق، تتضّح أكثر صورة الفقراء كنموذج للارتباط الشّديد بالحياة اليومية، هذه الحياة الضّاجّة الصّاخبة المتحرّكة والسريعة الوتيرة. وبهذا، تكون الهيكليّة الأساسيّة للقصيدة عند شوقي أبي شقرا هُم الفقراء أنفسهم.لكن، هل يكفي ذلك ليُنصِّب شوقي أبي شقرا نفسه ملكاً على الفقراء؟
أكياس الفقراء الطّائرة
من الجانب السّياسيّ للمهمّة، لا يمتّ شوقي أبي شقرا بصلةٍ لبطلٍ قوميّ للفقراء، أكان بشخصية فارسٍ شجاعٍ أم بروبن هوود متمرّد. أما من النّاحية الشّعريّة، فتجواله بين أولئك الفقراء وأماكن عيشهم وعناصر يوميّاتهم، من دون أن يغيّر مكان قشّة، هو قمّة البطولة. إذ لا يسعى شوقي أبي شقرا الشّاعر المتنقل بين مكوّنات قصائده بخطوات هوائيّة متأنّيّة ولاهية إلى أن يحصر أصوات أولئك الذين يحاول بشدّة إيصال منطقهم البسيط والمتواضع ونمط حياتهم المنكفئ والقنوع، إنّما على عكس ذلك، فهو يطلق هذه الصّرخات، التي تحت تأثير فجائيّة هذه الحرّيّة، تستحيل فراشات. لذلك، في خضمّ تجوالنا في ديوان "أكياس الفقراء" يغيب عن أنظارنا، بشكل شبه نهائيّ، تطرّقه إلى القضايا السياسية والاجتماعية والاقتصادية التي رُفعت دعماً للفقراء من جهة، ومن جهّة أخرى، ومن خلال إيقاع القصائد الدّاخليّ المرح، ترتسم في أذهاننا ومخيّلاتنا صورة الفقراء الذي لا يعرفون عمّا نتكلّم، نحن الأناس العاديّين، حين نشير إلى الفقر.
اشترك معنا في نشرة المدن الدورية لتبقى على اتصال دائم بالحدث
التعليقات
التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها