لم تأتِ أعمال الحياري من الفراغ، أكان في الحيز الأكاديمي، أم في نطاق الممارسة العملية. التحقت بمرسم الجامعة الأردنية، وكان لتواجدها بين جدرانه دور في تنمية قدراتها الفنية، كما أن التواصل المباشر مع فنانين آخرين كان له دور مكمّل في هذا المجال. وكما هي حال فنانين آخرين كثر، تنقّلت الحياري بين تيارات فنيّة عديدة، فالمرسم كان المكان الذي درست فيه، ولو بالدرجة التي اعتبرتها ضرورية، أصول التشريح، التي يبقى الرسم الواقعي من دونها ناقصاً، ولا يؤدي دوره في عكس صور يريد الصانع من خلالها التعبير عن حالات موضوعية. لكن علاقتها بالفن الواقعي لم تستمر طويلاً، إذ سارت بعدها في دروب الرمزية، لتنتقل إلى النهج الذي اعتبرته الأكثر انسجاماً مع تطلّعاتها، وهو الأسلوب التعبيري التجريدي.
وللمناسبة، لا بد من ذكر أن هذا الإتجاه يُعتبر من الإتجاهات الرائجة في الفن الحديث، علماً أن التوازن بين الإتجاهين: التجريد والمدرسة التعبيرية لا يكون دائماً على المستوى نفسه، نظراً للتناقض الأساسي القائم بين التيارين، من حيث علاقة كل منهما بمسألة الشكل. لذا، قد يغلب أحدهما على الآخر أحياناً، وخصوصاً حين يتعلّق الأمر بعكس حلات إنسانية، من دون الغرق في مستنقعات الإبهام والتورية، بعيداً من الوضوح، ولو في مستوياته الدنيا.
هذه الأوضاع الإنسانية هي بلا شك الموضوع الأكثر قرباً من نفس الحياري، إذ أخذت على عاتقها مهمة عكس حالات بشرية وصراعات متعدّدة الأوجه، ولو من طريق تعبيري يحوّر الشكل البشري، ولا يلتزم القواعد الأكاديمية، إلاّ من حيث ضرورة تسمية الأشياء بأسمائها، ولو من بعيد.
هذا الأسلوب كانت درجت عليه التعبيرية منذ ظهورها في الربع الأول من القرن الماضي، ما بعد الحرب العالمية الأولى، كتيّار مشاكس لم يتوانَ عن تبيان مآسي الحرب والتناقضات الإجتماعية في وجهها الأكثر مأسوية. ولو شئنا البحث عمّا يمكن أن تذكّرنا به أعمال حياري، فلا بد من أن يخطر في بالنا نتاج جماعة "كوبرا" CoBrA (كما إتفق على تسميتها وكتابة اسمها في منتصف القرن الماضي) واعتبرت من قبل النقاد والمؤرخين كآخر حركة فنية طليعية avant- garde في القرن العشرين. هذا، مع الأخذ في الإعتبار أن جماعة كوبرا ذهبت بعيداً في رفض التقاليد الفنية، ومضت في طريق الفن التجريبي.
أمّا ما يمكن أن يلفت انتباهنا من نقاط المشابهة بين الحركة المذكورة وهيلدا حياري، فهي العلاقة باللون الصريح والصافي، الذي استطاعت الفنانة توظيف معطياته وطبقاته المتراكمة في خدمة التفاعل، الحاد والحار، مع الحوادث أو المضامين التي تتناولها في الواقع. إذ لا شك في أن الظروف السياسية والاجتماعية لعبت دوراً رئيساً في تكوين لوحاتها، ويضاف إلى هذا العامل عوامل أخرى كالفروقات المجتمعية، والعنف الدائر في المنطقة، إلى ما هنالك من مشكلات لا تنتهي في هذه البقعة من الأرض.
من ناحية أخرى، تبدو لوحات البورتريه الفردية لدى الفنانة أشبه برسائل مرمّزة. المرأة في أحد الأعمال (ملامحها تشير إلى أم كلثوم) التي تحمل في يدها شبه المسترخية لفافة تبغ، إنما تحمل إشارة، كما نعتقد، إلى استقلالية وحرية في التصرّف خارج نطاق التقاليد المتزمتة. ولا بد أن نشير، هنا، إلى أن المرأة تمتعت بمكانة خاصة في نتاج الفنانة، فقد تقصّدت تبيان صلابة النساء عربيات، وكونهن يتمتعن بقوة ذاتية، وذلك على الرغم مما يتعرّضن له من ضغوط مجتمعية. وإذا كان هناك من نقاط ضعف لدى المرأة، فيبدو أن حالات الوهن هذه تبقى في نفس الفنانة، وقد يتم تجييرها بطريقة أخرى.
ثمة بورتريه آخر لرجل قامت الفنانة بتشويه مقصود لصورته، ولسانه المطلي بالأحمر الخارج من فمه على وشك أن يتعرّض للقطع بواسطة مقص ذي لون أبيض فضي. الرمز ليس في حاجة إلى طول تفسير في بلاد تعتبر حرية الكلمة جريمة ينبغي القضاء على لسان من يتفوّه بها. أضف إلى ذلك، أن ثمة أعمال أخرى، وبعضها ذو حجم جداري كبير، تتضمّن أكثر من بورتريه واحد، يجمع بينها القماش الحامل للصورة الجماعية، وتفرّق بينها الأحاسيس المتناقضة التي تحملها الشخصيات المرسومة. هذا، وفي حالات كثيرة، يغيب التوازن بين هذه الشخصيات، ويحضر التعاكس اللوني الذي يزيد من التوتر، ويؤدي إلى تحقيق المهمة التعبيرية، التي سبق وذكرنا أن الفنانة أخذتها على عاتقها.
الجدير ذكره أنه في العام 2015، كانت حياري قد أقامت معرض «وجوه ضد الحرب» في منطقة عبدون، والذي احتوى على العديد من اللوحات على شكل وجوه تحمل معان عدة، على النحو المشار إليه سلفاً. أمّا في العام 2018، فقد افتتحت معرضها «قطعة...قطعة» حيث واصلت تناولها لشخصيات نسائية باعتبارهن «مدن قُسِّمَت قطعة قطعة.. وما زلن يعشن وهم التماسك»، بحسب وصف الفنانة. فمن خلال المعرض تصف الفنانة تجربتها بقولها «وما الفن إلا محاولة لتجميع بقايا ما تبعثر في الروح والجسد.. سألتقط أنفاسي ثم أجزائي وأنثرها كلها على سطح لوحة».
اشترك معنا في نشرة المدن الدورية لتبقى على اتصال دائم بالحدث
التعليقات
التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها