الثلاثاء 2023/09/05

آخر تحديث: 12:41 (بيروت)

من عصام الخطيب إلى حسين حيدر...ثورة السوريين بأغانيهم الشعبية

الثلاثاء 2023/09/05
من عصام الخطيب إلى حسين حيدر...ثورة السوريين بأغانيهم الشعبية
عصام الخطيب وحسين حيدر
increase حجم الخط decrease
ليست المقارنة القائمة حول تموضعات الرموز في المشهد السوري هذه الأيام، بين بقعة يذهب فيها أزلام النظام وللمرة الأولى نحو تعمير وافتتاح تمثال لبشار الأسد مصبوب من مواد رخيصة تهترئ مع مرور الزمن والتعرض لعوامل الطقس، وبين أخرى يُعمل سكانها المعاول في تحطيم تماثيل راسخة في الذات السورية وكأنها أحجار بازلتية غير قابلة للزحزحة!

المقارنة هي وببساطة تقوم بين أن ينتمي المقاومون المنتفضون إلى المستقبل، وبين أن يبقى الخانعون المستكينون في أصفادهم العقلية والمادية، لا يصفقون فقط لزعيمهم الذي باتت في يده حيواتهم، بل يمضون أكثر فأكثر في التحول لأن يكونوا أدوات قتل وإجرام تعمل لصالح بقائه.

يرفض المتمردون الذين لم يتمكن داء "الرضى بالذل" من السيطرة على عقولهم أن يكونوا مجرد وسائل لتكريس السيطرة، فينطقون بالرفض، وحين ينتجون نصهم أو بيانهم، يوقن المرء أن القطيعة مع النظام وإجرامه باتت أمراً ناجزاً، ويدرك حُماة الأسد من رجال مخابراته وعسسه خطورة الأمر فيسارعون لإعتقال كل من صدح بالغضب!

ربما لم يسمع سوى القلة من السوريين بالشاعر الشعبي حسين حيدر المعتقل منذ أيام في سجون الأسد، لكن كلماته المتداولة في واحد من أواخر الفيديوهات التي صورها تكشف عن بلوغ الحال إلى ذروته في حيوات الناس، الأمر الذي يؤدي في المحصلة إما إلى انفجارها أو موتها بسبب الجوع وفقدان مقومات الاستمرار!


إنتاج النص المختلف عن السائد في بيئة صاحبه، ليس أمراً هيناً، وقد يكلفه حياته، وربما قبل ذلك يتسبب بهروبه من المكان والإضطرار إلى توسل النجاة في بقاع أخرى من الكوكب، مع دفع مستمر للضرائب المكلفة.

في البيئة ذاتها، وقبل عقود طويلة كان ثمة صوت ساحلي أكثر راديكالية في الموقف من نظام الأسد الأب، يصدح بالأشعار والأغنيات، لكن عوامل القمع ومحاولات التدجين، أو على الأقل الإقناع بالصمت، كضرورة وحاجة من أجل ألا يكون المصير هو السجن المديد، كانت كلها عوامل ضاغطة لأن يسكت المغني والشاعر الشعبي عصام الخطيب، عن تلحين أغاني الشعراء المعارضين، وعن كتابة كلمات أغنيات تعرّض بحافظ ورجالاته!

وربما يكون السبب الأهم في ما جرى هو غياب الرفاق، أي شباب رابطة العمل الشيوعي الذين انتهى مصيرهم إلى معتقلات: كركون الشيخ حسن وسط دمشق، وتدمر الصحراوي ومن بعده صيدنايا العسكري وعدرا المدني،.. فإذا ذهب الحالمون إلى الظلام، لمن ستغني الحنجرة ويرن الوتر؟!

قليلة هي المعلومات التي يعرفها الجمهور السوري عن عصام الخطيب، لكن تجربته الشعرية والغنائية تستحق أن تستعاد، وبغض النظر عن آراء البعض في قيمته الموسيقية، وتفاصيل حياته الغرائبية، وتبدلات مواقفه الشخصية، وبالتأكيد لا يجب أن يتم تظهيرها بوصفها إلتماعة عابرة أو لحظة منبتة عن سياقها الزمني.

في وقت ما من العام 1985 كانت أحذيتنا قد باتت مغبرة بالكامل ونحن نصعد الطرق الترابية المؤدية إلى بعض جهات حي الـ86، الذي نشأ في البداية كمخالفات سكنية على الجبل الذي يحمل اسماً هو هذا الرقم غربي حي المزة الدمشقي، وكان مقصدنا غرفة اسمنتية مبنية على عجل وبجانبها مطبخ يتم استخدامه كحمّام أيضاً. وحين وصلنا وطرق صديقنا الذي قاد رحلتنا الباب فتحت صبية مبتسمة، سأعرف بعد سنوات أنها الشاعرة السورية والمعتقلة السابقة غادة بوبو، وقادتنا إلى الغرفة حيث سألتقي ومن معي بعصام الذي كان يدخن سجائر الحمراء الطويلة، بشراهة، ويشرب الشاي الأسود، يتكئ على عود تم تغيير ظهره ليصبح مناسباً له فصار كظهر الغيتار. يستطيع الرجل أن يحفظ رنة صوتك بمجرد أن تلقي عليه السلام، لكن ميزاته لا تتأتى من كونه موسيقياً ضريراً، بل من خلال ما كان ينشده من أغنيات مختلفة وصادمة، كأغنيته الخطرة في ذلك الوقت:

"يا هويدلك يا.. يا هويدلي..

يا دل شعبي المبتلي

السادات يفرم بالشعب

وريسنا نازل بالقلي"..


أتذكر الأغنية وكلماتها التي سمعتها عبر كاسيتات يتم تداولها بسرّية في البيئة الحزبية، فيما أسمعها منه عياناً، لكن ما أدهشني أكثر هي تلك المحاولات الجميلة التي كان يقدمها لتلحين قصائد شهيرة لشعراء المقاومة الفلسطينية، كقصيدة "نشيد" لمحمود درويش، ولقصائد عدد من الشعراء الشباب كفرج بيرقدار وآخرين ممن ينتمون للبيئة ذاتها، حيث تلتصق كلمات القصائد برجفة البدايات واقتراف الثورة على النظام، والسعي إلى بناء عالم أكثر عدلاً، فتصبح الأغنية جزءاً من عالم سري يعيشه الشاب الحالم.


لم يروج "الشباب" لعصام الخطيب بوصفه مغني الحزب، ولم يحاول أحد القول بأن الرجل هو "الشيخ إمام" السوري، بالنظر إلى التشابه بين وضعيها لجهة فقدان البصر، بل إن الفكرة كانت تأتي من أن المناخ السوري العام، ورغم الوحشية التي سادت في عقد الثمانينيات تجاه المعارضين الإسلاميين، وبدرجة أقل مع اليساريين والقوميين، كان يفصح عن أصوات معارضة حتى في البيئة الأشد إلتصاقاً بالنظام. فمعاداة آل الأسد وكرههم في الساحل السوري لم يكونا نزوة عابرة لشباب يساريين متحمسين شكلوا الرابطة وكذلك جبهة النضال الشيوعي وغيرهما من التشكيلات. بل كان أمراً واقعاً تراود أفكاره الكثير من الناس، ويحدث مثله في أمكنة أخرى من الأرض السورية، فتعبرُ الجملة الغاضبة الطوائف والجماعات، لكنها وبحكم ما جرى من قمع وإرهاب ومحاولات لشراء الضمائر عبر تقديم الجعالات وتحويل المجتمع إلى تفاحة فاسدة، كانت تتلاشى وتختفي فلا يبقى منها سوى ما تسمح به الذاكرة!

هاجر عصام الخطيب بعد تجربة لا يُعرف عنها الكثير، مع المقاومة الفلسطينية، إلى البرازيل العام 1987، حيث عمل هناك مغنياً للمغتربين في بعض الأمكنة، ومن بين ما غناه أغنية كتبها فرج بيرقدار بعنوان "يا شام" تقول كلماتها: 

"يا شام اذكريني .. اذكريني يا شام

يا وردة هوانا.. يا ملفى اليمام..

اذكريني اذكريني يا شام السجينة

بأهلك بأحبابك بشمسك بترابك

يا عيون الكلام..

يا أغلى الأسامي يا بعيدة وقريبة

يا شوق الغمامة لعيون الحبيبة

اذكريني يا شام.. يا براج الحمام..

انطريني.. انطريني يا شام..".

عاد الخطيب إلى سوريا في العام 1995،  وحاول كسب رزقه بتقديم ألحانه إلى إذاعة دمشق، التي كانت دائرة الموسيقى فيها لا تبحث عن الألحان قدر بحثها عن أغنيات التمجيد بالقائد، ولا أعرف دقة المعلومة التي سمعتها عن أنه لحن لفؤاد غازي أغنية تمجد الأسد! لكن ما أعرفه أن الرجل اعتزل وقتاً طويلاً في قريته "جيبول" في ناحية "القطيلبية" في ريف جبلة. وأنه كان يكتب دائماً العتابات الشجية التي يتداولها البعض من دون أن يعرفوا أنه كاتبها، وحين أتى ذكره في جلسة عابرة مع أحد الأصدقاء القدامى في العام 2006، اتصل به، وحكى عن محاولاته الدائمة لتلحين أغنيات ريفية تحمل معاني الحب والدفء بعيداً من نمطية الغناء الجبلي الذي صار أشبه بطرق الطبول في الرؤوس، وعن سعيه مع مطرب شاب اسمه سامر أحمد لترويج هذا النوع من الغناء، وكانت أغنية "متل القصب" بداية المشروع، والتي يقول فيها:

"متل القصب متخصور وواقف على حيلك

وجدايلك ترقص عا جنح الريح والريح تحديلك

ميل على عنّات القصب ما أجملو ميلك

ميل على عنّات القصب لسكر وأغنيلك

غزلتك أنا أجمل حلم بالبال

وكل حلم بهل دني بدو غَزلْ

غزل الهوا وغزل الهنا وغزل الحرير وضمتو للشال

وغزل وغزل

غزل وقميص الليل

وخلّوا القصب يسرق مواويلك"

لكن لم يمض وقت طويل حتى وصلني خبر رحيل الخطيب في وقت ما من العام 2007، بعد معاناة طويلة مع المرض.

خلال السنوات الماضية، حاول البعض استغلال بعض ما أنتجه عصام الخطيب، ومنها أغنية له تحمل عنوان "أقسمت كل العواصم.. أن يظل الظلم قائم" حيث تم تحريف بعض كلماتها لتصبح مناسبة لخطاب النظام! وبحسب خالد أيوب، الذي كان قريباً من عصام، فإن الأخير كان يقصد أن كل العواصم العربية بما في ذلك دمشق كانت ضد فلسطين وقد رفض سابقاً أن يغير كلمة "كل العواصم" إلى "بعض العواصم" لتصبح مناسبة للمسرح، لكن بعد وفاته أخذتها دار الأوبرا ووظفتها لتُغنّى مُتخذةً معنى أن عواصم العرب ضد دمشق!

increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها