الأحد 2023/09/03

آخر تحديث: 08:21 (بيروت)

عن بقايا الوثنيّة في الإسلام... اليمنُ القديم نموذجًا

الأحد 2023/09/03
عن بقايا الوثنيّة في الإسلام... اليمنُ القديم نموذجًا
نقوش في اليمن
increase حجم الخط decrease
عند نقاش خلفية صعود العلوم الإسلامية لطالما وجه الباحثون أنظارهم نحو الشمال بحثاً عن تأثيرات مسيحية ويهودية وغنوصية في سوريا وبلاد ما بين النهرين. لقد حان الوقت للتوجه نحو الجنوب"؛ يان ريتسو، أكاديمي نرويجي، أستاذ اللغة العربية في جامعة غوتنبرغ، المجلد الثاني، (ص81)، "الوحي المتناقض: قراءة في سورة النمل وسورة سبأ"، القرآن ونقوش اليمن، مقاربات جديدة.

 

لا تخمُد الإشكالياتُ في ما يخصّ مناهجَ الدراساتِ القرآنية، ولا سيما الغربية منها، التي تسعى حثيثة إلى فهم النص القرآني في مهدِه، ونعني طرائقَ تشكُّله الأولى بالاستناد إلى كشوف أثرية ونقشيّة لم تكن متاحة في مطالع حَركة الاستشراق. ميزةُ هذه الدراسات وقوتُها أنّها، لأسباب يطول شرحُها، لا تبدو مقيدةً بخلاصات متعاليَة تتصل باتّساق النصّ وإعجازِه وترابطه بما هو وحي متكامل هبطَ على قلب النبي، بل يجري التعامل مع هذا النص، منذ نولدكه مروراً بأترابه وتلاميذه، بوصفه المصحف المكتوب الذي جمعه بشرٌ في ظروف تاريخية محدّدة، وبالتالي أمكن تكثيفُ البحث في ذلك المهد المتشكل من غير قيد ولا شرائط سوى المنهجية المعتمدة.

لطالما مالت تلك الدراسات الأكاديمية الخاصة بالنصّ القرآن، تبعا لمنازعه التوحيدية الساميّة إلى ردّه إلى المهود السامية الشمالية، المسيحية واليهودية، المتّصلة بالفضاءات السريانية الآرامية، سواءٌ من حيث القصص التي وردت في الكتب المقدسة أو لناحية المباني اللغوية الساميّة المشتركة. على أن مقاربات جديدة قد برزت إلى سطوح البحث في العقود الأخيرة، وتتصل بالعلاقات الوشيجة بين النص القرآني والفضاء العربي الجنوبيّ، ولا سيما المجال اليمني، من آثار ونقوش أثرية ومرويات شفهية. مقاربات تعيد تفتيح الألفاظ القرآنية وبالتالي سياقاتها في السور على مستويات مغايرة من الفهم والتأويل، إذ يبدو، بالدليل النقشيّ المادي أنّ صلات غير قابلة للإغفال تصلُ ما بين الإسلام الأول المتشكل، والمجال العربي الجنوبيّ.

من هذه المقاربات ما صدر حديثا عن دار الرافدين، منقولا إلى العربية، في مجلّدين؛ أحدهما تحت عنوان "من مأرب إلى مكة، دين اليمين القديم وبقاياه في الإسلام" (ترجمة محمد عطبوش وعمر دعيبس، والآخر تحت عنوان "القرآن ونقوش اليمن"، ترجمة محمد عطبوش. تفوق بحوث المجلد الأول العشرين بحثاً قدمها ثلاثة عشر باحثا (بريطانيان، وأربعة ألمان، وإيطاليان، وروسيّ ويمنيان وفلسطيني وأميركية؛ من بينهم روبرت سيرجنت وفرنر داوم اللذان وردت لهما أبحاث في المجلد الثاني). بحوث ترصد على واسع مجمل ما يتصل بالديانة العربية الجنوبية، سحيقا ما قبل الإسلام، وصلاتها بالفضاء الديني والطقسيّ المكّيّ... كل ذلك نلتمس آثاره شذرات سوف تغدو دلائلها واضحة لاحقاً في النصّ المركزي للإسلام.

قد يبدو صادما، للوهلة الأولى، ما يورده أحد مترجمَي هذه البحوث، محمد عطبوش، في مقدمة المجلد الأول، وتبعا للشواهد والعادات، في ما خص "الشعور بالوثنية في عادات اليمنيين" على حد تعبيره. يقول عطبوش إن هذا الشعور لم يقتصر على الرحالة الغربيين، بل يمتد إلى مؤرخ حضرمي، معاصر مرموق هو صلاح البكري (متوفّى عام 1993) الذي يورد "أن بعض الحضرميين عندهم شيء من بقايا الشعور الوثني الذي كان يشعر به بعض العرب نحو اللات والعزى". على أن وصف مؤرخ حضرمي معاصر آخر هو علوي الحداد هو المُشكِلُ حيث يقول "الجماهير منهم لا يهتمون بتعلم فروض العين، فضلا عن فروض الكفاية، ومنهم من لا يلتزم بأحكام الإسلام، لا في النكاح ولا في غيره..."، إلى أن يقول: "قلما يسمع المرء من بادية هذا الطرف شيئا من الكلام يدل على إضمارهم الإيمان بالغيب... وفي بواديهم من لا يفهمون معنى النبي ولا النبوة" (ص15).

في ما خص المجلد الثاني، يحاول ثمانية باحثين (أردنيان وتركيّ وألمانيان وبريطانيان ونرويجي) توظيف بعض النقوش اليمنية القديمة في سياق قراءات تيسر فهم الصلة المبكرة بين الإسلام والحواضر اليمينية العريقة. مثالا لا حصراً، يفترض البريطاني روبرت سيرجنت (1915-1993)، فهماً مغايراً للنهْي القرآني عن قتل الأولاد من إملاق، الوارد في الآية الحادية والثلاثين من سورة الإسراء، ولا تقتلوا أولادكم خشية إملاق نحن نرزقكم وإياهم، فيربطه بالمعافد (وتعني المقابر) أو بممارسةِ الاعتفاد العادة القبليّة اليمنية القديمة، وهي أن يفضل الرجل أن يموت جوعاً مع أولاده تجنّبا لذلّ المسألة والتسول.


في السياق، يقدّم لنا الأكاديمي الألماني فيرنر داوم (ولد عام 1943) مادة ثمينة (يحتوي المجلد الثاني على ثلاثة أبحاث لداوم) تعين، إلى حدود مدهشة، على فهم مركزية الطقس اليمني القديم، في محاولة استيعاب جديدة لما يتصل بهذه الطقوس في النصّ القرآني. يفحص فيرنر، على سبيل المثال، الطقس الحضرميّ القديم في زيارة قبر النبي هود يوم الخامس عشر من شعبان، وهو ممارسة لم تكن قد طمست إلى ما قبلَ مئة سنة، ولا تزال آثارُها بادية إلى اليوم في المرويات الشفهية والأدلة المكانية وكلّ ما يتصل بالحقل الإنثروبولوجي للفضاء الحضرميّ. يمتد هذا الفحص إلى أن يغدو شكلا من أشكل المقارنة مع كل أشكال زيارات القبور التعبّدية (وتحديدا طقوس الحج ومنى وعرفة) التي قنّنها النص القرآني في ترتيب تُرى في طياته تلك الآثار المطموسة. يؤكد داوم أن أهمية هذه البحوث "لا تقتصر على إعادة بناء دين ما قبل الإسلام في الجزيرة العربية، بل إن الصورة الجديدة، على حد قوله، ستبدو أكثرُ أجزائها حاكية لتلك البيئة التي نشأ فيها النبي محمد. وهذا الانعكاس، يقدم نفسه كاستمرارية أو كمحاولة متعمّدة للتغيير (استرجاع رسالة الله الأصلية) لا يمكن بالمثل فهمها إلا بفضل خلفيتها ونموذجها السابق على الإسلام" (ص185).


على أن المثير في شغل داوم وبحوثه خلاصتُه الجريئة والصادمة في آن، التي مفادها أنه "بعد أربعين عاما من الاهتمام باليمن، لا شيء قد تغير في دين هذه الأرض خلال ثلاثة آلاف عام ماضية سوى التسمية". وإلى ذلك، فإنّه يتوسّع، في أبحاثه، في فهم البيئة اليمنية الأصلية التي تشكّل طبقة تحتية للنصّ القرآني، وذلك من خلل رصد إنثروبولوجي دقيق، لدلالاتِ طقوس ومرويات أسطورية دُوّنت بالفعل، والمدهش أنها كانت، إلى ما قبل بضعة أجيالٍ، حيّةً في البيئات اليمنية. هذه الطقوس، من قبيل الاستسقاء والعشور والصيد المقدس وزيارات الأضرحة وتقديم القرابين في مواقيت مقدسة محددة، والتي ترقى إلى ما قبل حقبة التوحيد في اليمن (القرن الرابع الميلادي)، أمكن من خلالها فهمُ مقاطع كثيرة وردت في النص القرآني وظلت إلى حدود محل التباس وإلغاز، قبل أن يضفي عليها المفسرون اللاحقون والفقهاء طبقات من التأويلات تنزاح بها عن سياقها المحدد الأصليّ.

لا تتسع هذه العُجالةُ لإيراد كلّ الخلاصات والتفاصيل الثمينة في ما خصّ دائرة البحوث، لتنوّعها وثرائِها، لكنّ الخروج من قراءة هذين المجلدين تضعُ القارئ عموما والعربي خصوصاً أمام مسارٍ جديد في بناء طبقة تحتية جديدة أو رافدا من الروافد التي كانت أساساً في التشكيل النصي المركزي في الإسلام، فضلا عن معارف جمّة تعيد الرؤية إلى اليمين القديم بمجمل تفاصيله بوصفه ميدانا لا ينضب من ميادين إعادة ترميم السردية الدينية في شقها اللغويّ والحدَثيّ.

أقول، خلاصةً، إنّ هذه الترجمات الثمينة تشكّل، من دون شكّ، أرضية يتاح من خلالها للباحثين العرب استيعاب ثراء الأفق البحثي وتعدّده في غير حقل من حقول الدراسات الإنسانية، منهجاً وتطبيقاً، وخاصة في الشق الإنثروبولوجي. على أن ذلك يبدو بعيد التحقق إذ إنّ مثل هذه الترجمات التي تطمح إليها دور النشر، منفردةً، بالتعاون مع باحثين عرب في الحقل الأكاديمي الغربي، لا تكفي، فالغرضُ يكمن في التأسيس الجيليّ لهذه العقلية البحثية الأكاديمية في المجال العربي، وأن تكون الترجمة شغل مؤسسات وطنية حرّة بلا سقوف، ومن ضمن برامج سنوية سخيّة لا تنقطع.

 

 

 

increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها