الأحد 2023/09/17

آخر تحديث: 08:16 (بيروت)

يوم تآمرت الحرّيّة على نهى…

الأحد 2023/09/17
يوم تآمرت الحرّيّة على نهى…
لوحة للرسام المجري جوزف روناي
increase حجم الخط decrease
كانت الآنسة نهى تحتضن الببّغاء «فصيحة» كلّ صباح: تخرجها برفق من القفص الواسع، تداعب منقارها المعقوف إلى حدّ البشاعة، تطعمها حبيبات دوّار الشمس بتؤدة، ثمّ تعيدها إلى القفص، وتنطلق إلى عملها في مكتب الرحلات السياحيّة. 

ورثت الآنسة نهى الببّغاء «فصيحة» من زوج أختها التي هاجرت إلى كندا. فكّرت في أن تغيّر اسمها. فالببّغاء ما كانت تتكلّم إلّا لماماً. وحين تقول، لا تقول، بل تطلق من جوفها أصواتاً غير مفهومة. همست نهى في سرّها: «أستطيع، مثلاً، أن أسمّيها كوكا أو ميمي. فهي لا تزال صغيرة. ولا بدّ من أنّ عقلها الصغير يستطيع أن يتعوّد على الاسم الجديد». لكنّها سرعان ما عدلت عن الفكرة. فاحتفظت الببّغاء باسمها، وتصادقت نهى معه. 

حياة «فصيحة» الجديدة في شقّة الآنسة نهى صاحبتها تبدّلات ذات شأن. فقد ابتاعت لها نهى قفصاً جديداً دفعت ثمنه مئة دولار. كان قفصاً عملاقاً لا ينسجم حجمه مع شقّة نهى الصغيرة المؤلّفة من غرفة واحدة وحمّام ومطبخ ذي باب يفضي إلى شرفة ضيّقة. كانت الآنسة نهى تكره أن تعيش الطيور في قفص. وكثيراً ما تراقب العصافير وهي تحطّ على حافّة شرفتها كي تسترق قطع الخبز التي صفّتها هناك، فتحسدها على الطيران وعلى خيوط الشمس المجبولة بالأثير. لكنّها كانت تدرك أنّ الأمر مختلف مع الببّغاء. فآثرت شراء القفص الضخم على الرغم من ثمنه المعتبَر عساه يخفّف عن «فصيحة» عناء الأسر. ومنّت النفس بأن تتحسّن نفسيّة الببّغاء، وأن تتضاعف قدرتها على ترداد كلمات مفهومة ومرتّبة عوضاً عن الأنّات المكسورة التي كانت تتفوّه بها.

خيّل للآنسة نهى أنّ أحوال الببّغاء لم تتبدّل على الرغم من وساعة القفص. فراحت تخرجها منه كلّما رجعت إلى البيت، وتسمح لها بالطيران في الشقّة. وبلغ الأمر بها أنّها لم تكن تعيد الببّغاء إلى القفص بعيد حلول الظلام، بل تدسّها في الحمّام كي تقضي الليل هناك. في الحمّام، كانت «فصيحة» تلهو باقتلاع نتف صغيرة من ألواح اسفنج وضعتها نهى خصّيصاً كي تتسلّى الببّغاء بها. 

لم يخلُ هذا التبدّل الراديكاليّ في حياة «فصيحة» من المتاعب، إذ كان عليها، أوّلاً، أن تتعلّم الطيران على أصوله، وأن تتعوّد، ثانياً، على جغرافيا الشقّة. ذات يوم، كسرت قارورة زيت زيتون في المطبخ. وحين كانت بعض صديقات نهى يأتين لزيارتها، كانت «فصيحة» تحلّق فوق رؤوسهنّ بطريقة غريبة مصفّقةً بجناحيها، أو تعضهنّ في أصابعهنّ حين يحاولن مداعبتها. وكلّما كانت الآنسة نهى تحاول أن تعطي الانطباع أنّها غاضبة من الببّغاء أو تهمّ بتعنيفها، كانت هذه تحطّ على قمّة البرّاد وتطلق صيحات غريبةً كأنّها تتحدّى سيّدتها ووليّة أمرها. 

ذات يوم صيفيّ، كانت الآنسة نهى تقوم بتنظيف شقّتها والببّغاء «فصيحة» في الحمّام تقتلع كالعادة قطع الاسفنج بمنقارها البشع. لكنّها ما لبثت أن تسلّلت إلى المطبخ حيث كان الباب الذي يفضي إلى الشرفة موارباً. ما كادت الآنسة نهى تغادر المطبخ كي تحضر من الحمّام قطعة قماش قطنيّ تستعين بها على الغبار المتكوّم في بعض زوايا الشقّة، حتّى دسّت الببّغاء جسدها في فتحة باب المطبخ. وما إن وجدت ذاتها على الشرفة، حتّى حلّقت عالياً. لم تنتبه الآنسة نهى إلى غياب «فصيحة» إلّا بعد بضعة دقائق كانت كافيةً لتختفي الببّغاء من حياة المرأة إلى غير رجعة.

بكت الآنسة نهى كثيراً تلك الليلة وفي الليالي التي تلت هرب «فصيحة». كانت تجهش بالبكاء مرّةً تلو مرّة، وتحسّ بأنّ حكايتها مع الدموع لا تكاد تنتهي حتّى تبدأ من جديد. وحين كانت تحملق في القفص وتراه فارغاً، كانت تنتقل بناظريها إلى الشرفة والأثير كأنّها تبحث عن ببّغائها. هناك، كانت نهى تلمح خيوطاً شمسيّةً حارقة، وتشعر بأنّ القرص الذهبيّ لا يدور حول الأرض إلّا ليسخر منها.
increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها