العديد من العوامل تساهم في جعل رواية لينا كريديّة الخامسة الصادرة حديثاً عن دار النهضة العربيّة، مختلفة، استثنائيّة ولا تشبه في بنيتها معظم الروايات اليوم. إذ إنّها لا تتّبع في مسارها أيّ تسلسل تقليديّ، ولا ترتكز على حدث محوريّ معيّن تقوم بتطويره تصاعديّاً وفق حبكة وحلّ، إنّما تنبع من الذات وإليها تعود، بطريقة فوضويّة لكن منتظمة حيث تمسك الكاتبة بكامل خيوطها المتشعّبة والشائكة، ممّا يذكّر بأسطورة المتاهة وخيط أريان المقطوع. وقد تبدو في غدوها ورواحها المتكرّرين، أنها تزرع منذ البداية بذوراً ملتبسة تحسبها وأنت في صدد قراءتها مشتّتة ومفكّكة. فالبطل يبدأ حكايته بعدما مات، والأحداث تنطلق منعكسة من مرايا متشظّية.
كما أنه وللوهلة الأولى، ينتابك شعور غريب أنّك وسط متاهة متشابكة، لكن بتتالي الفصول سرعان ما تتلمّس الواقع المرّ والحقيقة الصادمة، وتتراءى لك الحياة بكامل تفاصيلها مهرجاناً حافلاً بالخيانات والخذلان. وقد يتسلّل إلى نفسك شعور إضافيّ بأنّ الرواية تنحو إلى ما يشبه الرمزيّة حيناً، والسرياليّة أحياناً، لتكتشف لاحقاً أنّك واقع في فخّ سرديّ مردُّه الانعكاسات الصادرة عن تعدّد المرايا التي تستخدمها، تماماً كبطل الرواية العالق إلى الأبد في المرآة.
ثمّ، شيئاً فشيئاً، تنجلي أمامك الأجواء، فتدرك أنّ بطل الرواية شخص عاديّ له اسم (أبراهام)، ودين (يهوديّ) لا يؤمن به أصلاً، وعائلة مشتّتة (أب وأم وأخ وأخت)، وصديق (نبيل)، وهو تلميذ يعيش في بيروت "في عزلة مكسورة بالكتب والأوراق والموسيقى"، سجين أفكاره المتزاحمة (عقوله الثلاثة)، يخفي ديانته في المدرسة، غير متأقلم اجتماعيّاً، هاجر إلى باريس للدراسة أثناء الحرب الأهليّة وقد عانى مصائب العالم العربيّ ما يقرب من ألف وسبعمائة عام، من الجاهليّة إلى الحرب اللبنانيّة. والمرآة التي تشكّل الثيمة الأساس التي استخدمتها الكاتبة وأتقنت توظيفها بطريقة مفتوحة ومتداخلة، ما هي إلّا استعارة ذكيّة لعلاقة الإنسان مع صورته، لتقوم عبرها بإسقاطاتها الفكريّة والنقديّة والعاطفيّة، عاكسةً في عريها وصفائها البلّوريّ التاريخ الشخصيّ والعام لهذا الشرق العربيّ البائس الغارق في اجترار أخطائه وفشله.
أكثر من ذلك، ما إن يجد بطل الرواية أبراهام نفسه عالقاً في مرآة منزله حتى يقوم باستدعاء مرايا أخرى متعدّدة من الأدب والدين والتاريخ والأسطورة والخرافة (مرآة "بياض الثلج"، مرآة فينوس، مرآة "الملاهي المشوّهة"، مرآة نرسيس، مرآة دراكولا، مرآة أليس، مرآة مرلين، مرآة نوستراداموس، مرآة هاري بوتر...)، ما يحيل في لعبة أنواع المرايا هذه إلى تعدّد الروايات، وتشابك الأقدار، وتيه الذات أكثر فأكثر. ولا يكتفي بذلك، بل يستدعي أيضاً كتّاباً عرباً وغربيّين (عنترة بن شدّاد، السموأل، لويس كارول، تشارلز ديكنز، أغاتا كريستي، باروخ سبينوزا، فرانز كافكا، هيغل، شوبنهاور...)، مُستقياً من روح أفكارهم وحيواتهم ما يتماهى مع الحالات المتنوّعة والغريبة التي يمرّ فيها.
من هذا المنطلق، تكمن خطورة الأمر، والرواية، في نبش أحداث قديمة ومقارنتها مع واقع يحدث، ليجد أبراهام نفسه سجيناً أبديّاً ليس في المرآة فحسب، بل في هذا التكرار التاريخيّ اللامتناهي. فكما دُسّت السموم ونُصبت المكائد في القديم، ينفضح أمر جارتهم كجاسوسة (شولا كوهين). وكما خان الأخ أخاه منذ بداية البشريّة، يخون والد أبراهام والدته. وكما تراكمت الأهوال والحروب في القبائل والأمم، كذلك انتقلت إلى عائلة أبراهام. وكما استعرتْ شهوة الخيانة في الحكم والجنس، تسللّت نارها إلى نفس أبراهام ووالده أيضاً. مسلسل طويل من الخيانات، والهزائم، والمرارات، يسيطر على أحداث الرواية ويشي على مداها برائحة الفشل والكآبة والموت.
ولا يكتفي أبراهام بالعودة إلى التاريخ وإسقاطه على الحاضر، بل يقوم بخطى حثيثة باستشراف المستقبل العلميّ والتكنولوجيّ ليتبيّن بأنّ شيئاً لن يتغيّر في هذه الصيرورة الزمنيّة التي تُنبىء بالنتيجة نفسها: الفشل. كأنّ الزمن قد تآمر ضدّه، وأطبق عليه، وتركه متسمّراً في مرآته، حين أمسك به الحلم بشبح الماضي وشبح الحاضر، وحين أتاه كابوس المستقبل واستفاق مذعوراً ليكتشف أنّه لم يأتِ بعد. وبين اختلاط التاريخ بالمستقبل، والحلم بالواقع، والأسطورة بالعلم، يبدو أنّ الزمن يكرّر نفسه بلا كلل، ويتقدّم بلا ملل، صانعاً من الأحداث وتحوّلاتها سلسلة مقفلة الإحكام، وكابوساً سوداويّاً تبدو فيه الكتب والمعرفة أشبه بأنتيكا مندثرة، حيث تفضي جميع المجريات إلى الذلّ والمهانة.
في هذا السياق، تتقن الكاتبة الحفر في مَسام الزمن، ساعيةً بكلّ ما أوتي لها من حِيَل سرديّة إلى فكّ الرباط بين الماضي والمستقبل، وبين الأسطورة والواقع، جاعلةً المراحل المتباعدة صفحة واحدة تدخل إليها وتخرج منها ساعة تشاء، ممّا جعل روايتها أشبه بالمتاهة زماناً ومكاناً بشكل يتماثل مع محور المتاهة في المرآة وانعكاساتها الذي تقوم عليه الرواية، وممّا ساهم مساهمة فعّالة في توحيد اللحمة بين الشكل والمضون، وبين الفكرة وتقنيّات تجسيدها.
وبينما تغدو الكلمات والجمل ومسار الأفكار، مشحذاً للسخط اللاذع إزاء النتائج القاتمة التي نتنهي إليها فصول الرواية، فصلاً تلو فصل، تنتظم المراحل الزمنيّة التي يعبرها أبراهام لتغدو مرحلة واحدة متكرّرة، كأنّها بذلك تستوي لتكون درسَ وعيٍ يستفيق منه ويُخرِج ما في داخله ويبدأ من جديد.
أمام هذا الوضع الميؤوس منه، وبالرغم من كلّ ما يعانيه أبراهام كسجين أبديّ في المرايا، نجده يبحث دائماً وبشكل حثيث وبشتى الطرق والوسائل، عمّا يجعله حرّاً طليقاً، فيعود طفلاً إلى الحيّ الذي ترعرع فيه، متنزّهاً في أزقّته، مفعماً بالحبور والدفء، ومستحضراً من ذاكرته الروائح المتصاعدة من الدكاكين الشعبيّة، كأنّه بهذا الحلم أو التخيُّل يتفوّق على الواقع ويغلبه، وكأنّه بهذه الطريقة يخترع أجنحة لحياته يطير بها في أفكاره. فهل في هذا نوع من الهروب يمارسه ليرتاح من الواقع، أم هي حياة لِما بعد الموت يحاول رسمها في أفكاره ويرفرف بها بعيداً في الخيال؟ وبالتالي، هل الخيال هو الخلاص من مأزق الواقع، والحلم هو سبيل الخروج من اللعبة التي لا تني تتكرّر وتعيد نفسها إلى ما لانهاية؟
في النهاية، يبدو أنّ الرواية رغم صغر حجمها (115 ص)، تتجرّأ على طرح الأسئلة الكبرى في علاقة الإنسان مع ذاته، ومع العالم، وفي تخبّطه بين الماضي والحاضر والمستقبل، وفي نظرته إلى الوجود المتفجّع والدامي الذي يتكرّر عبر الأزمنة كأنّه قدر لا فكاك منه، قرناً تلو قرن، سنة تلو سنة، يوماً تلو يوم، حتى يومنا هذا.
وما كلمة "العرجون" في العنوان، في دلالاتها المتعدّدة وبُعدها عن التداول اليوميّ، إلّا إشارة رمزيّة إلى محتوى الرواية وغموضها، فالعرجون هو الساق أو غصن النخلة القديم الذي لشدّة ما حمل الثمار انحنى، والذي كلّما مرّ عليه زمن وتقادمَ أصبح ضعيفاً وذابلاً. وما كلمة "اللّجين"، أي الفضّة، إلّا إحالة إلى تشبيه العرجون بالقمر في القرآن الكريم بحيث يصفرّ لونه بمرور الوقت ويصبح تقوّساً يشبه الهلال قبل دخوله المحاق.
هكذا تبدو الرواية من عنوانها حتى صفحتها الأخيرة، أشبه بالعرجون القديم، محمّلة بأثقال أحداثها ومنحنية على بؤس مصائرها، تتقصّى طرائق الهزيمة والسبُل إلى الخروج منها. وهي، في أسلوبها السلس المندفع ولغتها الجميلة الراقية، تحاكي إلى حدّ بعيد مشاعرنا الملتهبة وأفكارنا المحتدمة التي تتقاذفها عقولنا بلا هوادة ودونما استقرار، وتحاول التواصل مع التاريخ، والاتّصال بالمستقبل، كي لا ينقطع الخيط.
بالعودة إلى أسطورة أريان، ألا تبدو صورة العالم المضطرب اليوم أنّه دخل في تيه ممتدّ، وقد ينبسط هذا التيه كإيقاع للعالم، مُرصّعاً بإشارات وصور وأشكال ومحتويات غير قابلة للتصوّر؟ألا يُقال أيضاً إنّنا في عصر الشبكة العنكبوتيّة للاتّصالات؟
التعليقات
التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها