الجمعة 2023/09/15

آخر تحديث: 13:07 (بيروت)

"الحدود الخضراء" لأغنيشكا هولاند...أوروبا قاسية ومهاجرون على باب الجنة

الجمعة 2023/09/15
increase حجم الخط decrease
عند مرحلة ما من مهرجان البندقية السينمائي المنتهية نسخته الثمانين لتوّها، سارت في الأجواء أمنيات وأفكار بخصوص إمكانية حصول أغنيشكا هولاند على الجائزة الكبرى عن فيلمها الدرامي الحدودي "الحدود الخضراء"، الذي يلقي نظرة على الظروف المروعة على الحدود بين بولندا وبيلاروسيا، خاصة وأن المخرجة البولندية ليست "سينمائية مهرجانات كلاسيكية" بين محبّي السينما، إذ تعتبر سينماها غير طموحة من الناحية البنائية؛ وفي بولندا، تعتبر ناشطة أكثر من اللازم، كما كان واضحاً في بيانٍ صادر عن وزير العدل البولندي زبيغنيو زيوبرو، قال فيه: "في الماضي، قام النازيون بدعاية مناهضة لبولندا، واليوم تقوم أغنيشكا هولاند بفعل ذلك". من جهتها، هدّدت المخرجة، التي هاجرت إلى فرنسا في الثمانينيات ولها جذور يهودية، برفع دعوى قضائية بسبب مقارنتها بالنازيين.

في بعض الأحيان يكون مجرد التحريض من جانب معيّن دليلاً على أن هناك شيئاً متماسكاً. قصة هولاند عن اللاجئين والناشطين وحرس الحدود على الحدود البولندية البيلاروسية بمثابة تجربة سينمائية إنسانية مؤثرة ومفجعة، حتى بصرف النظر عن طابع الإلحاح السياسي السائد فيها. والحقيقة أنه مرّ وقت طويل بعض الشيء منذ أُعجب كاتب هذه السطور بما كانت تفعله صاحبة "أوروبا، أوروبا" (1990) و"أوليفييه، أوليفييه" (1992) و"الحديقة السرية" (1993). التزامات شتّى وقلة اهتمام دفعتني إلى تجنُّب (ربما يكون التجنّب مصطلحاً ملطَّفاً) مشاهدة فيلمها الأخير خلال المهرجان. لذلك، بعد انتهاء حفل توزيع الجوائز، وبناءً على توصية زميل أقدّر وأحترم وجهة نظره، شاهدتُ الفيلم الحائز جائزة لجنة التحكيم الخاصة.

ونعم، لدى "الحدود الخضراء" أكثر من بضع نقاط قيّمة ولافتة. فالموضوع، كما في فيلم ماتيو غاروني "أنا كابتن"، يتعلّق بالهجرة والمهاجرين. وفي حين يجد المرء أيضاً جوانب قيّمة في الفيلم الأخير، إلا إن كاتب هذه السطور لا يشارك الحماس الذي بدا ملموساً في "البندقية" للفيلم الإيطالي (وبلغ ذروته بجائزتي أفضل مخرج وأفضل ممثل واعد لبطل الفيلم). وربما يكون لذلك علاقة بكون فيلم المخرج الإيطالي مسروداً بالاساس باعتباره فيلم مغامرة. اندفاع منجرف يغادر فيه الأبطال المراهقون بلادهم في سبيل محاولة النجاح في عالم الموسيقى. رحلة محفوفة بالمخاطر يكون فيها "الأشرار" أو "الرجال السيئين" موظفين أوروبيين فاسدين على الحدود، ومهرّبين يخدعون اليائسين الفارّين من بلادهم الجنوبية من خلال توفير ممرّ آمن لهم، وآخرين يشكّلون مافيا على هامش القوى القائمة. في الأثناء، يُستبعد السياسيون والسياسة وأوروبا من الصورة. على العكس من ذلك، قالت أغنيشكا هولاند بوضوح عندما حصلت على جائزة لجنة التحكيم الخاصة: "ما نراه في فيلمي يحدث الآن في أوروبا. وليس لأنه لا توجد وسائل لعلاجه. بل عدم استخدامها هو القرار المتخذ في هذا الشأن". وهذا تحديداً ما يدور حوله فيلمها الأخير.


في حالة فيلم هولاند، هناك إرادة والتزام حقيقيان. صحيح أنه في بعض الأحيان يصبح الأمر تعليمياً وهناك بعض الشخصيات التي تبدو وكأنها إعادة إنشاء لنماذج تنميطية. ولكن، مع ذلك، هناك قوة وإلحاح يقودانا إلى التورّط في ما يريد الفيلم قوله.


يتكون "الحدود الخضراء" من أربعة فصول تجري أحداثها على مدار شهر تشرين الأول/أكتوبر 2021، بالإضافة إلى خاتمة نهائية تدور أحداثها بعد عامين. في الحدود المشجرة والمستنقعات الغادرة التي تفصل بيلاروسيا عن بولندا (ومنها يأخذ الفيلم عنوانه)، يجد المهاجرون القادمون من الشرق الأوسط وأفريقيا أنفسهم (وما زالوا) في وضعٍ قاس وميؤوس، يبدو عصياً على التصديق لولا أنه، للأسف، حقيقة واقعة. فالأزمة الجيوسياسية التي دبّرها الدكتاتور البيلاروسي ألكسندر لوكاشينكو في محاولته استفزاز أوروبا الحالمة، عبر إطلاقه وترويجه دعايات تغري المهاجرين بالتوجّه إلى حدود بلاده وتعدهم بعبورٍ سهل إلى جنّة الاتحاد الأوروبي؛ تتجسّد في آلاف الأشخاص الذين تنتهي حياتهم في ذلك اللامكان، عند تلك الحدود حيث ترى بولندا وبيلاروسيا كيفية التخلص من "المشكلة" من خلال تمرير الأرواح والأجساد على جانبي الخطّ الذي يفصل البلدين.


يتتبع الفيلم بعضاً من بيادق هذه الحرب الخفية: عائلة سورية لاجئة، ومدرس لغة إنكليزية من أفغانستان، وحارس حدود شابّ، وناشطة حقوقية بولندية. يجتمعون جميعاً على الحدود البولندية البيلاروسية. يعرض الفيلم، المصوَّر بالأبيض والأسود، المعضلات الأخلاقية التي تمرّ بها بولندا، فضلاً عن الحياة اليومية الرهيبة للمهاجرين. عملٌ ملحّ، ويملك التزاماً حقيقياً نحو موضوعه، في بعض الأحيان خطابي، ولكن من دون أن يفقد قوته.


صحيح، يمكن للمرء المجادلة بأن الفيلم لا يفعل أكثر من مجرد شرح العنصرية والسادية للمشاهدين مراراً وتكراراً، وترك المتفرّج مدمَّراً من هول القائمة الواسعة للفظائع التي يُظهرها في هذه الأثناء. وصحيح أيضاً، أنه يعيد التذكير باللازم والضروري تمثيله وتناوله سينمائياً، والمسؤولية الأخلاقية للصور، وفي سعيه لهذا الهدف والتنديد بسياسات الحكومة البولندية المحافظة والمعادية للمهاجرين يشعر بالحاجة إلى أن يكون "خاماً" وفعالاً من الناحية العاطفية، ليستوي في الأخير صورة قوية للعار الأوروبي (والإنساني) الذي يسكن الحدود بين بيلاروسيا وبولندا.


عشرات الآلاف من العرب والأفارقة لقوا حتفهم على الحدود الخارجية للاتحاد الأوروبي في السنوات الأخيرة. ولم ترفع بولندا الحواجز ولا استقبلت الملايين إلا عندما فرّ الأوكرانيون البيض من العدوان الروسي على بلدهم. يمكن لمتفرّج (يميني على الأغلب) أن يعترض على اقتراح هولاند باحتضان طالبي اللجوء، وأن يصرّ على التفريق بين لاجئي حرب من دولة مجاورة وهجرة ذات دوافع سياسية أو اقتصادية. يمكن لمتفرّج آخر (يميني أيضاً) أن ينتقد المخرجة لأنها نظرت تحت الأقدام فحسب، في الأجواء الرطبة والباردة والدموية، وليس في غرف المفاوضات في بروكسل أو في سوريا والمغرب وأفغانستان، حيث بدأت الرحلة. بغض النظر عن هذا كلّه، يظل "الحدود الخضراء" نداءً ملحّاً فنياً وسياسياً. إذا كانت السينما آلة للتعاطف، على حدّ تعبير الناقد الراحل روجر إيبرت، فهذا الفيلم نموذج للدقة والالتزام: المعاناة المصوَّرة هنا واضحة بشكل مؤلم، تتعمّق المرارة في كل إطار، يخاطب الفيلم قلوب ناظريه، ويتحدّاهم في الوقت نفسه للتفكير في الخيارات الأخلاقية التي يواجهها الأشخاص العاديون كل يوم. تقول المخرجة: "أزمة المهاجرين هي التحدّي الذي سيشكّل أوروبا الجديدة. لقد اخترنا قصة أخلاقية لإعطاء صوت لجميع الذين أُسكتوا ومَن لا صوت لهم".

increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها