مع الزلزال الذي ضرب المغرب، وتحديداً مدينة مراكش، نشعر بالحزن والقلق ونتذكّر عشرات الشخصيات الأدبية والثقافية والإعلامية والرياضية والسياسية التي زارت "المدينة الحمراء، فسيحة الأرجاء، الجامعة بين حر حرور وظل ظليل وثلج ونخيل". الحمراء نسبة إلى اللون الغالب على مبانيها، وهي توصف بـ"مدينة البهجة"، حيث لا تخفى الروح المرحة والميل للنكتة لدى أهلها، وهي "وُرَيدة بين النخيل"، أي وردة كما تقول إحدى الأغاني المغربية، ويقال أنه كلما ضاقت الأزقة على المارة انفتح في الماضي بابٌ يقود نحو عوالم من فتنة العمارة وبهاء النقش، تتناسق وألوان البضائع التقليدية المعروضة للبيع.
(أزقة مراكش)
ومراكش سبق أن كتب عنها محمد بن عبد الله الموقت (1894 - 1949)، في كتاب "الرحلة المراكشية"، فقال: "إن أول مظهر من مظاهر جمال الطبيعة الذي يشاهده الوافد على هذه العاصمة المراكشية تلك الابتسامات الدائمة التي يراها مرسومة في ثغر كل منظر من مناظرها الخلابة وفي وجوه جميع سكانها وأهاليها بل في طلعة كل ما تضمه جدرانها، وتحيط به أركانها"، مشيراً إلى أنها "الوحيدة على الإطلاق التي لها الجمال الطبيعي، والمحاسن العزيزية". مراكش هذه سحرت الأدباء والشعراء والرحالة ولعل أبرزهم الاسباني خوان غويتيسولو "المراكشي الشرفي" كما يسمي نفسه، وكان لساحة جامع الفنا المراكشية حضور قوي في ذهنه وسيترجم ذلك في أعمال عديدة، من بينها روايته "مقبرة"، و"الأربعينية" التي تجري أحداثها في الساحة.

(أسواق مراكش)
لكن النص الأبلغ عن مراكش كتبه الياس كانيتي(*). ففي العام 1953 حلّ صاحب "الجمع والسلطان" في المدينة الحمراء، وأصدر في العام 1968 مدونة رحلته عن هذه الزيارة تحت عنوان "أصوات مراكش" التي تعتبر وثيقة تقدّم صورة تاريخية بانورامية عن أشهر المدن المغربية قديماً وحديثاً. فرحلة كانيتي التأملية جاءت بمثابة "إلهام" له، إذا سرعان ما حملته أعاصير الألوان المتفردة التي شاهدها في تلك المدينة، التي تنشق روائحها وسمع أصواتها، إلى رؤية جديدة، تختلف عن كل ما خبره في لندن حيث كان يقطن. إذ "غاص في حياة المهمشين والمشردين وفضاءات الملاح وسوق العميان في إطار كتابة تمنح موضوعها سيولة تتيح لأجزائه أن تنتقل وتتقاطع وتتوالد وتتآل"(خوان غويتيسولو)، وحتى ألد أعداء كانيتي يعترفون بهذا الكتاب...
تحدث كانيتي عن لقائه "وجها لوجه مع الإبل" في السوق الواقع أمام سور"باب الخميس". ويتكرّر هذا اللقاء ثلاث مرات. وفي المرة الأخيرة، ينتهي بشكل فاجع إذ إن كانيتي يتألم شديد الألم لمصير جمل يباع أمامه، ثم يساق إلى المسلخ بعد مرور وقت قصير على ذلك. ولم يصور كانيتي مشهد ذبح الجمل، إلاّ أنه يجعلنا نستشعر فظاعة ما سيحدث.
وعن المساومات في أسواق مراكش التقليدية التي لا تشبه أبداً الأسواق الأوروبية حيث الأسعار محددة سلفاً، يرسم كانيتي صورة بديعة: "تنشر الأسواق روائح التوابل. فيها تسيل الألوان، وينتعش المرء بالهواء البارد. والرائحة التي هي دائماً لطيفة، تتغير من حين إلى حين بحسب طبيعة السلع المعروضة. وليست هناك أسماء، أو علامات، أو واجهات. كل ما هو للبيع معروض. ونحن لا يمكن أن نعرف الأثمان التي ليست مبيّنة، ولا محددة"، وبالتالي تتحوّل لغزاً. وهو يطوف في الأسواق، "تطلع من الأسواق رائحة التوابل. كل شيء هنا طازج والألوان تنهمر انهماراً. لكن الرائحة التي تبدو على الدوام عذبة، تتبدل بتبدّل طبيعة البضائع". والعابر ربما يقول لنفسه: "اليوم أود أن أقصد سوق التوابل. وعلى الفور يصل إلى أنفه ذلك الخليط العجيب من الروائح والعطور ليرى أمام ناظريه سلالاً ضخمة ملأى بالفلفل الأحمر. ثم يقول في يوم آخر: "اليوم تواتيني رغبة في مشاهدة الأصواف الملونة. وعلى الفور يرى الأصواف معلقة من حوله بألوانها البديعة: زرقاء غامقة، أو صفراء ذهبية أو سوداء...".
والصورة الأعمق تتجسد في المرور في "درب العميان"، الذي لقن الكاتب درساً عن معنى أن تدرك الحقائق بحواس أخرى. يكتب: "ألفيت نفسي هذا العام، فجأة، لدى وصولي إلى مراكش، وسط العميان. ثمة مئات منهم، أكثر مما يستطيع المرء أن يعدّ، معظمهم يتكفف الناس. يقف جمع منهم، في بعض الأحيان ثمانية، في البعض الآخر عشرة، متجاورين صفاً واحداً في السوق، تترامى إلى البعيد هيمنتهم الخشنة المكرورة، بلا انتهاء. وقفت بإزائهم، جامداً مثلهم، دون أن أتبين على وجه اليقين ما إذا كانوا قد استشعروا وجودي أم لا...
كان كل رجل يمسك وعاء خشبياً للصدقات، وحينما يلقي أحدهم بشيء لهم، فإن القطعة النقدية الممنوحة تنتقل من كف إلى أخرى، يتحسسها الرجال جميعاً، يعجنون عودها، قبل أن يدسّها أحدهم، تلك مهمته، في كيس النقود. إنهم يتحسّسون معاً، مثلما يهيمنون ويدعون معاً".
وينخرط كانيتي في التجربة، تجربة العميان، لينظر هل بإمكانه أن يرى ما وراء الأسوار والأدعية والأصوات. يكتب "بعد عودتي من مراكش، اقتعدت ذات مرة مغمض العينين، متربعاً في ركن حجرتي، حاولت أن أردد: الله! الله! الله! مراراً وتكراراً لمدة نصف ساعة، بالسرعة وبالارتفاع المناسبين. حاولت أن أتصوّر نفسي عاكفاً على تردادها نهاراً بكامله وجانباً من الليل، أغفو قليلاً، أعاود الترتيل كرّة أخرى، عاكفاً على الشيء نفسه أياماً، أسابيع، شهوراً، أعواماً، داباً نحو الكهولة فالشيخوخة، على هذا النحو، ومتشبثاً، من دون أن أستشعر حاجة إلى شيء آخر، عاكفاً عليها تماماً". يكتشف فتنة الحياة التي تلخص كل شيء في الشكل الأكثر بساطة ألا وهو التكرار. لذلك سيسمّي أولئك العميان: قديسي التكرار".
لم يقف كانيتي عند تأمل المشاهد الخارجية لمدينة مراكش، بل ابتدع حيلة ماكرة كي يدخل بعض الدور، ويلتقي ببعض العائلات كي يكتشف ما يختبئ في الجزء المستور من هذه المدينة القديمة. يتذكّر كانيتي عيوب الحياة العصرية في المدن الغربية، ويكتب قائلاً "إن إحدى كوارث حياتنا العصرية تكمن في أننا نتقبل كلّ أداة وهي مكتملة وجاهزة. وعادة ما تنقل إلى البيت وهي مهيأة للاستعمال كما لو أنها أداة سحريّة. هنا نرى العكس تماماً. بإمكاننا أن نشاهد الحبّال وهو يشتغل (…) إنه عمل يتمّ أمام عيون المارة. وفي مجتمع سري للغاية، يخفي بدقّة متناهية دواخل بيوته عن الأجانب، كما يخفي أجساد نسائه ووجوههن، يبدو هذا الصدق في إظهار ما يصنع، وما يباع لافتاً للانتباه". ولا يتوقف الأمر لدى كانيتي عند حدود تأمل أحوال البشر، بل يفعل ذلك مع البيوت أيضاً، ففي نص "الصمت في البيت والفراغ فوق الأسطح"، يصف جمال التوقف أمام أبواب المنازل، وحيازة مفاتيحها، والعبور إلى داخلها وصعود سلالمها الحجرية، ويحسد أسراب طيور السنونو وهو ترفرف فوق ساحاتها وتنظر إلى النساء من دون أن تتعرض للوم أو عتاب من أحد.
(*) الياس كانيتي: روائي وكاتب بالألمانية، ولد في 25 يوليو 1905 في روس-بلغاريان وتوفي في 14 أغسطس 1994 في زيورخ، سويسرا، جنسيته بلغارية بريطانية، وحائز جائزة نوبل للأدب 1981.
التعليقات
التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها