الجمعة 2023/09/01

آخر تحديث: 15:32 (بيروت)

عن حر أغسطس والاستعلاء الأدبي

الجمعة 2023/09/01
increase حجم الخط decrease
في أغسطس، قبل سنين خلت، أدخلتني الصدفة طريق الصحافة، عندما نصحني صديق في نشر ما أكتب في مجلة ناشئة، أطلقت الدعوة للفنانين لمشاركة إبداعهم، لكنهم، في ما يبدو، رأوا فيَّ ما ينبئ بشغيل جديد يمكن أن يرفد الصحيفة بالمواد في مقابل الفتات، أو من دون مقابل حتى، وهكذا شغلوني معهم صحافيًا.

ومن خلال ملابسات متعددة، تداخلت مع إخفاق دراسي، لم أجد غير الصحافة مهنة، فتعلمتها من المرأب إلى مكتب الرئيس؛ قلدتُ أخبارًا، وصنعت قصصًا صحافية أُلقيتْ إلى القمامة، وشهدتُ مدير صفحتي "حائساً" في خبر ثانوي لكنه يتجاهل واحدًا أملكه لعدم ثقة في قدراتي، فيأخذني آخر ويعلمني طريقة يطلق عليها اسم "نفش" الخبر، ثم ثالث يخبرني أن "الطلعة الأولى" أهم شيء، مزاوجًا ما بين كتابة المقدّمة والفحولة الجنسية، ويجلسني رابع إلى جواره فأرى كيف يُحرّر مادتي فتكون صالحة للنشر.

عن اللحن وتكراره
في أغسطس، وخلال خمسة عشر عاملً تالية أو يزيد، كان كل من قابلته كريمًا ويجدّ بإخلاص في تعليمي وتعليم غيري، لكنهم جميعًا، لم يستطيعوا أن ينقذوا الصحافة -التي عملت معظم سنيني في أقسامها الثقافية- من واقعها المتردي، لأنهم صحافيون، ولأن المهنة ضاعت بالطبع عندما ابتعدت عن الأدباء؛ فتحي غانم، وإحسان عبد القدوس، وصلاح جاهين طبعًا وغيرهم!

في ذلك الشهر الذي دخلت فيه، للمرة الأولى، مجلة كان يملكها رأسمالي ويعتمد على الهواة من أجل إنتاج مطبوعة تتسع صفحاتها لقائمة الرعاة وإعلاناتهم، كنت أعاني من ألم في الأذن، ربما كان التهاباً منع عني ذلك اللحن، أو كنت بعيدًا من مصدره، لكن الأيام عالجت سمعي، أو قربتني حتى قادني الطريق إلى بكاء، مثل لحن جماعي، يردد الكورس فيه جملا ثابتة "إن ابتعاد الصحافة عن سيطرة الأدباء أتلفها، فصار الأدب بين الناس في الشارع نكتة وعلى الشاشة نكتة وفي الصحف نكتة، وضاق المجال بالنقد الجاد، فأصبح الأدب نفسه نكتة قبل أن يتحول إلى الناس".

قبل ذلك الأغسطس، عندما بدأت الكتابة وزرت منتدياتها، كنت أعرف لحنًا آخر، يشبهه، يغني الكورس فيه أن الشعر أعلى مراتب الفنون جميعها، وأن الجيد من الرواية واللوحة والمقطوعة والفيلم... إلخ، إلخ؛ كلهم شعر.

... أو ربما
هل خلق الإنسان قبل/ بعد أغسطس؟ لأنه ربما لا يتطور، وربما تكون تلك المعضلة الأساس في ذلك التصور عن رفعة الأدب في مقابل الصحافة، فالأخيرة كفن طارئ على غيره من الفنون، اعتمد على الأدب والفن التشكيلي في صياغة قوالبه؛ خرجت الصحف أساسًا تعتمد على نشر النصوص الإبداعية لجذب القراء، فضلًا عن استكتابها الكثيرين من مشاهير الصنعة الأقدم لخلق مادتها الرئيسة. (لكن هل توقفت الصحافة عند ذلك الحد؟)

وربما... ربما لا يستقيم المجال مع ربما، فللصحافة في الواقع ميزة على الأدب، لأنها استطاعت أن تتحوّل إلى صناعة حتى في بلد يعاني من متلازمة النمو الأبدي مثل مصر، بينما لم تستطع الفنون في وطننا العربي كله حتى اليوم أن تدرك شيئًا من ذلك التحول، وما زالنا -وربما سنظل هكذا طويلًا- نشكو، عندما يتعلق الحديث بالأدب، من أزمة البيست سيلر ومكانة ما نطلق عليه جزافًا الأدب الرفيع من حيث المبيعات، لأنه ببساطة ليس ثمة سوق للأدب يتيح لمختلف الأساليب والمستويات التواجد جنبًا إلى جنب أمام قارئ يتنوع بتنوعها. ربما الفن نفسه لم يدخل بعد حيز التطور الأدنى على مستوى التحول نحو الصناعة، ويفتقر إلى أدوات كثيرة أخرى لا تقل أهمية عن المنتج الإبداعي نفسه.

أحيانًا أتصوّر أن الأدباء في مصر عندما يتعلّق الأمر بالصحافة ويتباكون على مآلها، فإنهم يبحثون لأنفسهم عن حق وهمي اكتسبوه بالميلاد، فإن كانت الكتابة أم الصحافة، أو شاركت في ابتكارها؛ "فنحن –كأدباء- أولى الناس للعمل بها"، من دون أن يدركوا أبدًا أن تطوراً هائلاً جرى للأخيرة جعلها علمًا راسخًا وفنًا تختلف أدواته عن الأدب، دون أن يتميز أي منهما على الآخر أو يرتفع عليه درجة، لأن وظيفتيهما ببساطة صارتًا مختلفتان وإن اعتمدتا على بعضهما كثيرًا.

ربما تكون تلك الأفضلية المتخيلة، رغم ذلك التباكي، هي الأساس وراء الأسطورة القائلة بأن العمل في الصحافة يضعف اللغة الأدبية، وهي أسطورة لا مبرر لشيوعها حتى اليوم غير الرغبة في تأكيد تميز الأدب على ما دونه من فنون الكتابة، وتشبه تمامًا أسطورة أن الشعر أرقى الفنون، وأن الأدب أكثر قيمة من السينما، وأن الرواية أعلى مرتبة من السيناريو، وبالجملة، أن الأدباء لا يمشون في الأسواق ويأكلون الطعام، ولا يشجعون كرة القدم.



ما يهدد الحياة نفسها
على كل حال، ما جئت لإلقاء خطبة بتعبير ماركيز، الذي كان يرى أن العمل في الصحافة، للمفارقة أفاده إبداعيًا. وإنما جاء حر أغسطس، فتذكرت خمسة عشر عاماً خلت، حين طلب مني كتابة خبر فقلدت آخر، وجلست لأفهم كيف أنفشه، ثم تعلمت أهمية الطلعة الأولى، في الكتابة على الأقل، وكيف يمكن أن أعدّ مادتي لتكون صالحة للنشر، وأن أذني ليست ملتهبة، وأن المهنة التي تتردى يومًا بعد أخر، تنحدر ليس لأنها ابتعدت عن سيطرة الأدباء، أو لأنها جاءت بعد أغسطس، وإنما لأنها تعاني، من "الاستبداد"، و"من حراس الكليشيه" وكل من يتحدث عن الصحافة فيختصرها تعظيمًا في مفردة "المهنة"، أو يصفها لفقر لغوي ومعرفي في نفسه بـ"صاحبة الجلالة"، ومن "الذين وضعوا الغسالة في صالة التحرير" فاخترعوا مهنة الديسك، والحريصون منهم على استمرارها...

تعاني الصحافة من "الجاهل" الذي لا يعتدّ بضرورة إتقان اللغة التي يكتب بها، ومن "البخلاء" تلك المؤسسات التي لا تضع التدريب ضمن أولوياتها، ومن "حراس المدرسة" الذين يظنون نموذجًا مثاليًا لأشكال الصحافة، فيسعون لضبطه بالمسطرة، ومن "حراس المعرفة" الذين يظنون أنه لا بد من "الإفتاء" في الصحافة الثقافية تحديدًا، لأنها مسألة كرامة، فقد تلقوا عيون الفن وفق الروشتة (اللوائح المعدّة سلفًا لكل ما يجب أن تتلقاه من أشكال الإبداع).

وتعاني من "حراس البلاغة"، الذين يزورهم العام 2023 وما زالوا يتوهمون أن البديع والبيان والمعاني توقفت عند ما أدركه الجاحظ، ومن "حراس الحرية" الذين يبحثون دائمًا عن ثمن ما ظنوا أنهم دفعوه، ومن "البالون" الذي قرأ كتابًا وعدده! ويحسب أنه خلّده! وجعله أرفع من أي توجيه أو تطوير من محرره. أو لم يقرأ ويعرف ولكن "ربنا رازقه بجهل غانيه عن كل العلم". ومن "نارسيس" الذي يمارس الصحافة لأنه كاتب من دون أن يفهم أنه يمارس فنَّين مستقلين من فنون اللغة، وأخيرًا من "حراس الطبقة"، كل من يمارس الصحافة من أبناء الطبقة الوسطى العليا، الحديثة، أو المُحدثة، الذين يتعاملون مع الحياة وفق قيمها المتخيلة، أو الذين يصطنعون الانقلاب على تلك القيم، كلاهما يدعي امتلاك المعرفة الرفيعة، ويمارس ما يظنه "الخير" و"الحق" ليس لأنه سلوك مفترض للإنسان السوي، لكن لأنهم جيدون بما يكفي ليفعلوا ذلك؛ هؤلاء يهددون الحياة نفسها وليس مهنة بعينها.

وربما... ربما لا يستقيم المجال مع ربما، إن مر أغسطس سينصلح حال الجميع بما فيها الصحافة والأدب طبعًا.

increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها

الكاتب

مقالات أخرى للكاتب