الأربعاء 2023/06/07

آخر تحديث: 12:36 (بيروت)

يوسا وأفول السارترية

الأربعاء 2023/06/07
يوسا وأفول السارترية
صدَم سارتر قرّاءه العرب عندما انحاز إلى إسرائيل في حرب 1967.. وانتهت السارترية العربية
increase حجم الخط decrease
قبل أسابيع، نشرت صحيفة "الشرق الأوسط"، زاوية للنوبلي البيروفي ماريو فارغاس يوسا بعنوان "سارتر وبائع الكتب"، يستعيد فيها جانباً من لقائه ببائع الكتب: "ذكّرته بأنني منذ سنوات بعيدة كنت أذهب إلى مكتبته بحثاً عن تلك العناوين لسارتر. سارتر؟ أجابني مستغرباً، وقال: لم يعد يقرأه أحد اليوم. والفرنسيون يعتقدون أنه كان ستالينياً متنكراً. يا له من إجحاف بحقه!". يضيف يوسا: "يبدو، استناداً إلى ما سمعته، أنهم قلة ضئيلة هؤلاء الذين يُقبلون على قراءة سارتر هذه الأيام، لكن لا أعتقد أنه قد أصبح في طي النسيان. أذكر أنني على الصعيد الشخصي، وبعدما قرأت في مقابلة معه أنه وجّه انتقادات شديدة إلى اثنين من الرواة الأفريقيين، ونصحهما بالتخلي عن كتابة الأدب إلى أن تقوم ثورة ومنها بلدٌ صالح للأدب، قررت الابتعاد عنه بعدما ضقتُ ذرعاً بإرهاصاته العقائدية وتناقضاته الكثيرة. لكن ما سمعته على لسان بائع الكتب العجوز من أن قرّاءه اليوم أصبحوا قلّة، أثار عندي بعض الحنين إلى ذلك الزمن الغابر".

ويوسا الذي تجاوز العقد الثامن من عمره، بدأ، مثل معظم رفاقه، ماركسياً مناصراً للثورة الكوبية الكاستروية والحركات التي كانت تستلهمها وتدور في فلكها، لينتهي ليبرالياً بعدما كان يعرف، خلال إقامته في باريس، بلقب "سارتر الصغير"، لشغفه بالناشط والفيلسوف جان بول سارتر. بدأ يوسا رحلة النأي أو "الردّة" عن اليسار وأنظمته، وصولاً إلى الليبرالية التي اختمرت مع "النضوج" الذي تدرّجت مراحله بفضل مطالعات لكتّاب مثل كامو وأورويل وكوستلر. وفي كتابه "نداء القبيلة"، يتحدث عن رحلته من الماركسية إلى الليبرالية، بفضل قراءاته لأساتذة ومفكرين كبار أمثال كارل بوبر، وفريدريك فون هايك، وأشعيا برلين، وأورتيغا إي غاسيت.

في مقاله الجديد، يعتبر يوسا أن "سارتر، بغضّ النظر عن التباساته العقائدية التي كانت تثير الحيرة بين المعجبين بفكره، كان فيلسوفاً كبيراً، وربما الوحيد في مصافّ كبار الفلاسفة الألمان"، ويجد صعوبة في القبول بنظرية بائع الكتب العجوز "أن أحداً لم يعد يقرأ سارتر في هذه الأيام". فـ"بعض خصومه الأشدّاء، مثل ريمون آرون وجان فرنسوا روفيل، أقرّوا بأنه كان المميّز والأبرز في جيله، وأن الوقت قد أزف الآن للفصل بين نصوصه الرصينة وتصرفاته التي رافقت مسيرته السياسية".

لا أدري لماذا بدت مقالة يوسا متأخرة جداً، عن ظاهرة فكرية تقلّص وجودها منذ عقود، أو هكذا نظن في لبنان، إذ قلما نجد كتاباً لسارتر في مكتبة، باستثناء كتاب "الوجود والعدم". ربما ارتأى يوسا أن يلقي الضوء على "أيقونة" الأمس على لسان بائع الكتب، وهي من خلاله لها معنى آخر، أو هي اشبه بفكرة لرواية مقبلة... والحقّ أنه سبقت مقالة يوسا هذه، تعليقات والأبحاث كثيرة تنعي الموجة السارترية، رغم سطوعها البارز في مرحلة ما بعد الحرب العالمية الثانية حتى السبعينات.

فبعد مرور بضعة عقود على رحيل سارتر (21 حزيران/يونيو 1905 -1980) لم يبق الكثير من الفيلسوف الفظ والفذ: لم تعد الوجودية التي يُختزل تعريفها بأنها "فلسفة تؤكد الوجود الفردي والحرية والاختيار، وتنطلق من وجهة النظر القائلة إن البشر يحدّدون معناهم في الحياة، ويحاولون اتخاذ قرارات عقلانية على الرغم من وجودهم في عالم غير منطقي". يمكننا القول أيضاً، إنه لم يعد هناك مَن يعلن نفسه كسارتري، على نحو ما كان يحصل لدى المجموعات اليسارية الجديدة في الستينيات، أو لدى بعض المفكرين والمثقفين والروائيين الملتزمين. ما حدث، بحسب الناقد ابراهيم العريس، هو أن الفكر الفرنسي، وتحديداً خلال العقود التالية على رحيل سارتر، بات فكر "مُوَض" (جمع موضة)، تظهر وتختفي تبعاً لقوة جاذبيتها الإعلامية... حتى السارترية بذاتها، التي نتحدث عن نهايتها، سرعان ما تتحول موضة في لحظة من اللحظات، وسرعان ما تتداعى أو تتلاشى...

وقبل أن يغدو "بابا سارتر" كما يسميه الروائي العراقي علي بدر، في طي النسيان، استطاع "إنزال" الفلسفة من برجها العاجي إلى الشارع. وبدا أن قطاعاً واسعاً من الشباب المتمرد والرافض لقيم المجتمع البورجوازي قد وجد فيه، وفي فلسفته، على الرغم من "أنها لم تكن مبسطة، ويكتنفها شيء من الغموض، ملاذاً. لا في فرنسا وحدها وإنما خارجها أيضاً"(سعد محمد رحيم).

عومل كأقنوم مقدس واتسم أسلوبه بالفظاظة والسخرية. كان متعجرفاً في مواجهة خصومه. وقادته صراحته وصلافته إلى معارك لا تنتهي مع قوى وأحزاب وتيارات ومفكرين وجوائز عالمية وفرنسية. وكان رائجاً وشعبياً، ليس فقط بفضل كتبه الفلسفية التي تستند إلى روايات ومسرحيات ودواوين شعرية، بل بفضل خوضه النضال في الشارع إلى جانب "المهمشين"، الذين تضيع حقوقهم. كان هو صاحب مبدأ "المثقف الملتزم" أو "الأديب الملتزم"، المبدأ الذي اتبعه طوال حياته وكلّفه غالياً. فالتزام سارتر، بقدر ما رفع اسمه عالياً، بقدر ما أخذه نحو متاهة متشعبة وورطة لا مفر منها.

لعل أبرز نموذج في ذلك يتجلى في أنّ المثقفين العرب عثروا في كتابات سارتر حول الجزائر- لا سيما مقدمة كتاب "معذبو الأرض" لصاحبه فرانز فانون، المترجم آنذاك إلى اللغة العربية، صدى نظرياً لواقعهم. لكن القضية الأبرز التي تمثلت أنه في حرب حزيران 1967 كان سارتر مناصراً لاسرائيل... وفي نهاية العام 2018، أصدر يوآف دي كابوا (أستاذ التاريخ في الولايات المتحدة الأميركية) كتاباً بعنوان "الوجودية العربية: جان بول سارتر وزوال الاستعمار" الذي عرضت وسائل الإعلام ملخّصه، واستحضر بين صفحاته تجربة لم تُقدّر بما يكفي، أرسى معالمها تيار الوجودية العربية. استلهم الباحث تأثير كتابات سارتر في منطقة الشرق الأوسط، ووضح كيف أن انحياز الفيلسوف إلى جانب إسرائيل خلال حرب حزيران 1967 أعلن نهاية مذهب الوجودية العربية.

هكذا، ارتفعت أصوات في العالم العربي - من بينها صوت الروائي اللبناني سهيل إدريس، أحد أبرز مترجمي كتب الوجودية والمسوقين لها في مجلة "الآداب" - تطالب بأن يُستبدل سارتر بمفكرين آخرين، لا سيما بالبنيويين خلال تلك الحقبة. هكذا، وقبل إعلان هزيمة حزيران 1967، كانت الوجودية العربية أول ضحاياها. ثم أغلق المثقفون العرب الباب أمام توجه كوني جراء تنكره لهم. وانتظر الشاعر أنسي الحاج سنوات حتى كتب في "خواتمه" عن الموجة السارترية وغيرها قائلاً "كلما أحببنا واحداً يطلع ضدنا".

وآلت "الموضة" الثقافية الفرنسية الجديدة إلى موجة "رُهاب الإسلام"، وهو موضوع المؤرخ الإسرائيلي شلومو ساند، في كتابه "نهاية المثقف الفرنسي: من زولا إلى ويليبك"، ويقول إنّ المثقّف الفرنسي "الجديد" يمثّل قطعاً مع تراثٍ طويل للمثقفين الفرنسيين، يمتدّ من عصر التنوير وروسو وديدرو، وصولاً الى بورديو وفوكو، وهو امتاز (بغض النّظر عن المنطلقات السياسية) بانحيازه الدائم، الى الضعيف والفقير والمهمّش. الرعيل الحالي كتّاب من الدرجة الثانية، وصفهم بورديو المنتمي إلى المدرسة القديمة، بأنهم "مفكرون سريعون يقدمون وجبات ثقافية سريعة". ويركز ساند على الكاتب إريك زيمور (الذي قرر في ما بعد الترشح لرئاسة الججمهورية الفرنسية)، والفيلسوف آلان فنكيلكراوت الذي تحول ناقدًا للتعدد الثقافي. وتراجع دور المثقف مقارنة بجيل سارتر... ويبقى السؤال الذي طرحه دي كابوا: "هل كان سارتر سارترياً؟".
increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها