الثلاثاء 2023/06/06

آخر تحديث: 19:01 (بيروت)

بيروت التي بلا "تحت"

الثلاثاء 2023/06/06
بيروت التي بلا "تحت"
لوحة عارف الريس "بلا عنوان" (1977-1978)
increase حجم الخط decrease

كأنه لا "تحت" في بيروت. منذ زمن وهي بلا "تحت". كل ما في جوفها، كل ما سبحت فوقه يوماً أو رقدت عليه، بات "فوق". فوق أرضها، أسفلتها، حُفرها. جرذانها وفئرانها وحشراتها. نفاياتها، مجاريها ومبتذلاتها. حيواناتها وأسماكها النافقة. ومجرموها أيضاً يسكنونها أو يعودون إليها آمنين، لا يعنيهم البحث عن سرداب للاختباء، بل يتزعمونها أحياناً. فقانون الجاذبية في بيروت، معكوس، ويشتغل أكثر ما يشتغل على الحصانات، الدبلوماسية والطائفية، الحزبية والسياسية والمليشيوية، والعصبوية المتآزرة بالفساد وما يعرفه كل عنصر من الشبكة عن الآخرين.

بين أصحاب الحصانات، وبين أرض بيروت، مغناطيس يعمل بالمقلوب، ككل شيء في هذه البلاد. يقذفهم إلى أعلى، يبقيهم في الهواء والضوء الوقح: سليم عياش، رياض سلامة، كارلوس غصن، الأب منصور لبكي، كل مَن كان يعلم بنيترات الأمونيوم في مرفأ بيروت وكل مَن استُدعي للتحقيق في جريمة الانفجار المرفئي والمالي والجنائي... وتمنّع لائذاً بحصانته. مُعاقَبون/مُلاحقون دولياً – أفراداً ومؤسسات، وتجار مخدرات وبَشَر، ومُهرِّبون. مبيّضو أموال ومختلسون، ومُدانون أو متهمون بجرائم اغتصاب، اغتيالات واعتداءات. ربما ينضم إليهم قريباً سفير لبنان في باريس، رامي عدوان، فيعود إلى لبنان سالماً غانماً. كلهم يرتعون في هذا المصران الغليظ، النافر بمكنوناته من الجسم اللبناني المعتل، مفتوحاً على نسائم حريته غِلاباً.

كل شيء فوق. لا سرّ في هذه المدينة، ولا حقيقة معلنة. "بيروت التحتا" التي بَناها ربيع جابر في "بيريتوس: مدينة تحت الأرض" بروائع التفاصيل، بِشُرورها وجمالها ورعبها، عائلاتها العائشة في نور الشموع، المُقتاتة على السمك الأعمى والجذور البرية، ما عاد ممكناً حتى تخيلها... إذ صارت واقعاً في نور الشمس ودفئها الذي يفعل فيها ما يفعله في قمامتها المتكدسة أياماً.

وقد ظنّ بعض صغار المجرمين أن الـ"تحت" قد خلا لهم. أرادوا سبر أغواره كحيوانات خُلد متذاكية، لسرقة ما تبقى من شرايين ما عادت تضخ الكثير في حياة مدينة بلا قلب وبلا مخ. ظن هؤلاء السذّج أنهم سينعمون فعلاً بحصيلة إغارتهم اللصوصية الصغيرة على الأنفاق تحت وسط بيروت، من كابلات إنارة وتأريض وخزائن تحكم ومضخات مياه. لكن لا مكان لجريمة بلا حصانة. في مدينة الكابلات الممدودة من "فوق"، و"التعليق" في الهواء الطلق، لا كنز يرتجى "تحت". مثلما أنه لا فعل مضاداً يطلع من تحت إلا ميتاً، منابت العشب سقيمة، وهذا الـ"تحت" مفرغ سلفاً حتى عندما كان مأهولاً بالأحلام، بالأوهام. هذه شفافيتنا. هكذا، فهم لصوص الكابلات، ومعهم ضحايا المافيا الفوقية، بلا كثير شرح: في مدينة الجرائم، قانون يُنفّذ بحزم. مَن كان منكم بلا حصانة، سيُعتقل ويُساق إلى "العدالة". 

في رواية "شريد المنازل"، للراحل جبور الدويهي، والتي تجري أحداثها في بدايات الحرب الأهلية اللبنانية، ثمة مشهد عن الصباح التالي على ليلة احتلال قنّاص لشرفة شقة "أولغا"، بلا مقاومة من أهل البيت العزّل: "في الصباح، حضر البديل، أبو ياسر، تسلّم البندقية والموقع، لم يفتحا باب الغرفة إلا بعدما ارتدت أولغا ثيابها وتبرّجت. غرفة الجلوس صارت خارج البيت، شارعاً عاماً، معبراً لمليشيا التنظيم الشعبي نحو الشرفة المطلة على فندقَي السان جورج والهوليداي إن، حيث لم يطُل انتظار أبو ياسر خلف بندقيته...".

هكذا هي بيوت اللبنانيين ومؤسسات دولتهم الورقيّة، اليوم أيضاً، في الزمن الذي يوصف باللا-حرب. تُهدَم، تُسرَق، يستباح ناسها بالمعاني كافة. في هذا الـ"فوق" البيروتي المتفاقم، الغرف كلها والشوارع، مفتوحٌ بعضها على بعض. عمومية فائقة، ولا من يكترث حتى لمُداراة ارتكاباته أو سبك إنكارها... ولماذا يفعل، طالما أن الحصانة تشرق كل يوم، ولا تغيب حتى في الليالي المُقمرة؟

increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها