السبت 2023/06/03

آخر تحديث: 14:06 (بيروت)

أمينة رشيد... الأرستقراطية الماركسية

السبت 2023/06/03
أمينة رشيد... الأرستقراطية الماركسية
أمينة رشيد (تصوير داليا السرجاني)
increase حجم الخط decrease
في إطار مشروع مشترك بين جائزة الملك فيصل ومعهد العالم العربي في باريس، للتعريف بمئة من الباحثين العرب والفرنسيين، ممن ساهموا في صنوف الحوار بين ضفتي المتوسط في القرنين الماضيين، صدر كتاب "أمينة رشيد أو العبور إلى الآخر" عن دار المرايا القاهرية، من تأليف سلمى مبارك (بالفرنسية)، وترجمة داليا سعودي. 
 
على الرغم من إنتاجها المتأني، ذاك الذي لم يتجاوز كتابَين اثنين من تأليفها وحوالى عشرين بحثاً نشرت بالعربية والفرنسية، فإن أمينة رشيد تعدّ اسماً لامعاً في حقل الأدب المقارن والجامعة المصرية. أما مساهمتها الاستثنائية في الحياة العامة، وبين ضفاف الثقافات العربية والفرانكوفونية، والمتّسعة لكل من الثقافة والسياسة، فهي ما يسعى كتاب تلميذتها السابقة ورفيقتها سلمى مبارك أن يبسط بعضاً منه. ومن حيث الشكل، فإن الكتاب في قسم منه سيرة شخصية وأكاديمية، وفي قسم آخر شهادات عنها ومقالات لها ومقالات عنها.
 
(أمينة رشيد في الجامعة)

كان اختيار أمينة لحقل الأدب المقارن، خياراً أيديولوجياً بالأساس، باعتبار الدراسات المقارنة محركاً أخلاقياً للعلاقة مع الآخر، وعنصراً إبستمولوجيا ضد الحواجز، بأنواعها بين الاختصاصات العلمية أو بين الآداب أو اللغات. إلا أن مد البصر عبر الحواجز وعبورها، لم يسفر عما يرغب في تصوره كوساطة ثقافية، أو ما يجري وصفه بطريقة رومانسية كحياة "البين بين". بل على العكس، كان نتاج انفصالات وتناقضات شائكة، وكانت محصلته بالقدر نفسه من الالتباس الذي لا يخلو من خشونة المواجهة. 

يتتبع الكتاب الجذور العائلية لتلك الخيارات، فأمينة المولودة لعائلة إقطاعية، ذات علاقات نسب بالأسرة العلوية الحاكمة حينها، وحفيدة إسماعيل صدقي باشا رئيس وزراء حكومات عديدة في الثلاثينيات والأربعينيات، ستتلقى صدمتها الأولى في الطفولة حين تقذفها طفلة صغيرة بالحجارة لأن جدها وقّع لتوه على معاهدة "صدقي بيفن" (1947) التي زادت من تبعية مصر لبريطانيا. لن تتعافى أمينة -بحسب قولها- من تلك الصدمة أبداً. في العام 1954، ستكون قد أتمت دراستها الثانوية وحزمت أمرها على الانتماء إلى الماركسية، كمنهج للثورة وفي الحياة. وبحسب واحدة من الشهادات التي يتضمنها الكتاب، كان ذلك الانتماء الشيوعي رومانسي الجوهر، ووليد إحساس بالذنب العميق، وأخلاقيات طوباوية دفعتها إلى محاولة التبرؤ من طبقتها لفرط الخجل من امتيازاتها الكريهة.

(أمينة وسيد بحراوي)

كانت الفرنسية في طفولتها الأرستقراطية، أكثر من مجرد لغة، بل أيديولوجيا للتعالي الطبقي والتماهي مع الآخر الأوروبي، أما العربية فكانت على النقيض لغة التحدث مع الخدم. لن تنبذ أمينة فرنسيتها، بل ستشرع في تحسين عربيتها، حتى تصير لغة كتابتها إلى جانب اللغة الأوروبية، وبطول تاريخها المهني اللاحق ستتصدى لتفكيك المركزية الأوروبية وعناصر هيمنتها على الشعوب المستعمرة، وستتناول النصوص الأدبية بوصفها في أحد وجوهها مقامات للصراع وممارسة السلطة والعلاقة بين الغالب والمغلوب. 

في باريس، ستختار أمينة لرسالتها للدكتوراه، العمل على كتابات الفيلسوف الإسباني رامون لول، الذي عاش في القرن الثالث عشر، وتحدث العربية بطلاقة، وانتهت حياته بالموت رجماً نتيجة تبشيره في المغرب العربي. وإن كان هذا التلاقي بين الشرق والغرب فاشلاً ومؤسفاً، بالإضافة إلى أن كتابات لول هوجمت من قبل الباباوية، فإن ما شغل أمينة في عمله كان أهمية الاستعارة في نصوصه، والعلاقة بين العقلانية والشعرية فيها. ولاحقاً، في عملها البحثي اللاحق بعد تخرجها، ستركز على الراهب الفرنسيسكاني روجر بايكون، الذي نذر نفسه لدراسة اللغات الشرقية ومنها العربية، وأقدم على استعادة أعمال أرسطو عبر النصوص الإسلامية، وهو ما سينتهي به إلى الحرمان من التدريس ثم السجن بسبب "استحداثاته المريبة".

ستنال أمينة نصيها من السجن أيضاً، فبعد عودتها إلى القاهرة العام 1978، من أجل التدريس في جامعاتها، وبفضل انخراطها في العمل السياسي، كعضو مؤسس في "لجنة الدفاع عن الثقافة الوطنية"، ستكون رهن الاعتقال بين مئات الأساتذة والمناضلين في سبتمبر 1981. يستعرض الكتاب بعضاً من يوميات تلك التجربة المرة، فتدهشنا رقتها وأن جلّ تركيزها مُنصبّ على الحوار الحنون الذي دار بينها وبين الشرطيَين الموكلة لهما مهمة القبض عليها. 
بين جوانب أخرى كثيرة، يفرد الكتاب مساحة لمساهمتها في علم الصورة ودراسة أدب الرحلات والسيرة الذاتية، وأصل الرواية العربية، وتضمين النهج المقارن كأساس لنظرية الأدب، وكذا المزيد عن حياتها الشخصية وزواجها من الدكتور والناقد الأدبي سيد البحراوي الأصغر منها بخمسة عشر عاماً، بالإضافة إلى عملها في الترجمة، إذ نقلتْ إبراهيم أصلان إلى الفرنسية، وآني إرنو إلى العربية، مع أسماء وأعمال أخرى من اللغتين. 

ملخص تلك المسيرة الطويلة، والتي ستكون أسطع محطاتها الأخيرة مشاركتها في مسيرة أساتذة الجامعة إلى ميدان التحرير في خضم ثورة يناير، لا يقدم لنا الكتاب مجرد سيرة، بل جردة تاريخ طويل لوطن وثقافة، وعوالم أوسع تتقاطع وتتخاصم وتتعالق، وكانت أمينة دائماً في وسط هذا كله، مخلصة لمبدأ وحيد يتجلى في كل ما قامت به، هو "الالتزام". 
increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها