الثلاثاء 2023/05/09

آخر تحديث: 19:31 (بيروت)

مقاهي الديموقراطية

الثلاثاء 2023/05/09
مقاهي الديموقراطية
حشد الناس للثورة، في 12 تموز 1789، من "كافيه دو فوا" الباريسية
increase حجم الخط decrease
لا أحد ينتظرني في المقهى الباريسي. مع ذلك، أغذّ الخطى إليه وكأني سأتأخر على موعد مهم. انتهت العطلة المدرسية الطويلة، عادت الطفولة إلى صفوفها وملاعبها، والصباح الباكر عاد لي، لجلستي اليومية مع نفسي وأفكاري وقراءاتي المتراكمة. لا أحد ينتظرني، لكن الكل سبقني. أمهات التلامذة اللواتي لم أتعرف عليهن على باب المدرسة، بل هنا، بعد مداومة ومثابرة على انتزاع وقتنا المستقطع من حياة لا تدور حول فردياتنا. النادل الذي بات يحضر لي قهوتي كما أحبها، قبل أن أطلبها. العجوز المدخنة بشراسة وهاتفها لا يهدأ، وتبتسم لي دائماً. الكل هناك، وتلاقِينا الحتمي غير المتّفق عليه، وإن كان أحد لا ينتظر أحداً.

قبل أيام، كنت قد رأيت، في مقهى آخر قريب، إحدى أشهر المتسوّلات في شارعنا. تلك التي تطلب أحياناً سيجارة، وتزعم أنها رسامة فتحاول بيع "لوحة" فيها بقرة ومزرعة من النوع الذي يخربشه أطفال الروضات. لكنها في المقهى، لم تتسول شيئاً، ولم تنتحل أي صفة غير صفتها كزبونة. كانت تحتسي فنجاناً وتسترسل في الكلام مع كهل بدا مصغياً باهتمام. تذكّرتُ، حينها، مرويّة أمي الشهيرة، عن ماسح الأحذية في بيروت الستينات. تقول إنه كانت يجول على شقق عمارتنا، بعلبته الخشبية وفرشاته، وفي عطلة نهاية الأسبوع تراه في أحد مقاهى شارع الحمرا مع عائلته، متأنقاً بشوشاً، وكلما مرّ به أحد زبائنه حيّاه بحرارة.

هذه ليست مشاهد رفاه ومدينية متألقة فحسب، بل من مظاهر الديموقراطية أيضاً. كلنا في المقهى، وبمبلغ زهيد، نستمتع بمشروباتنا وصحوننا الصغيرة. نحكي ونسمع، أو نصمت، أو نغرز أنظارنا في شاشاتنا. المهم أننا ننوجد، سواسية. ثمة في مقاهي بيروت مَن نظَم شعراً وصار إسماً في الملاحق الثقافية، أو نظّم مظاهرة، في 2005 أو 2015، في تشرين الأول 2019، وربما غداة اتفاق القاهرة 1969. وفيها -أكيد- مَن تعرَّف بحبِّ العُمر أو تركه. المقاهي المندثرة والباقية، المقفلة والجديدة والمتبدلة، في خضم الأزمة، ما زالت تَعِد بمجهول لذيذ، حتى ولو لم يحدث شيء البتة. ذلك أنها مقاهٍ وهذا ما تفعله، هكذا تختضن الأغراب، ولا شيء وكل شيء. ولأنها بيروت، المدينة الدائمة في جوهرها، رغم أمراضها وبراكينها.

والمقهى لم يكن، منذ البداية، مِن عاديّات الحضَر. بل كان موبقة، خطيئة حيناً، وأحياناً ثورة. بدأ في رحاب السلطنة العثمانية، كبديل للحانة. وفي العام 1633، أصدر السلطان مراد الرابع مرسوماً ينص على أن استهلاك القهوة جريمة يُعاقب عليها بالإعدام. فقد قُتل شقيقه وعمّه على أيدي "الإنكشارية" ووحدات المشاة التي كان أفرادها يواظبون على المقاهي. ثم توالى السلاطين العثمانيون، على حظر المقاهي، ورفع الحظر عنها، حتى القرن الثامن عشر، تحت هاجس أساس هو منع تجمع المنشقين. وبحلول ذلك الوقت، كانت المقاهي قد انتشرت في أوروبا، لتثير الرعب في قلوب الملوك.

افتتاح أول مقهى في لندن العام 1652، كان أشبه بانقلاب على ثقافة شديدة الهرميّة. يخبر ماركمان إليس، مؤلف كتاب "المقهى: تاريخ ثقافي"، كم بدت راديكالية فكرةُ جلوس أيٍّ كان، بشكل اعتباطي ومُساوٍ، بجانب أيٍّ كان، حول طاولات مشتركة مغطاة بالصحف والمنشورات. "كانت المقاهي محرك صناعة الأخبار في لندن في القرن الثامن عشر"، يكتب إليس. ثم قُطع رأس والد الملك تشارلز الثاني، خلال الحرب الأهلية الإنجليزية، فبات اجتماع الرعايا للحديث في السياسة بُعبُعاً مَلَكياً صافياً. فأصدر جلالته بياناً "لكبح جماح انتشار الأخبار الكاذبة، والحديث الفاضح عن شؤون الدولة والحكومة"، وجاء فيه: "لقد سمح الرجال لأنفسهم بحرية، ليس فقط في المقاهي، لكن في أماكن واجتماعات أخرى، عامة وخاصة، لتوجيه اللوم والتشهير بإجراءات الدولة والتحدث عن أشياء لا يفهمونها". ولمحاربة هذا "الشر"، زرع وزير الخارجية، السّير جوزيف ويليامسون، شبكة من الجواسيس في مقاهي لندن. وفي العام 1675، كان الكيل قد طفح بتشارلز الثاني، مثلما تفور قهوتنا المتوسطية من "الركوة"، فأمر بإغلاق مقاهي لندن كلها. لكن الحظر لم يدُم إلا 11 يوماً. انتصرت القهوة على الملك. لعله، بقمعها، حقق أسوأ كوابيسه بيده... واستدعت نقاشاتها الكثير من أفكار عصر التنوير. بل، في أوكسفورد، أُطلقت على المقاهي تسمية "جامعات الملاليم"، إذ، وبكلفة فنجان قهوة، ستستمع إلى أفكار وتشارك في نقاشات من مَصاف ما يُدرَّس في الجامعات... كان ذلك في العصر الذهبي للبيرة التي تواضعت، مثل التاج، أمام القهوة.

وكانت المقاهي الباريسية حاضنة المحرّضين والمنظّمين الجمهوريين خلال الثورة الفرنسية.. حتى اشتكى أحد المَلَكيين، مستنكراً وحائراً: "من أين تأتي كل هذه الإثارة الجنونية؟ مِن كتَبَة ومُحامين صغار، من كتّاب غير معروفين، جائعين، يثيرون الرعاع في النوادي والمقاهي. هذه هي البؤر التي صاغت أسلحة الجماهير".

استضافت "كافيه دو فوا" الدعوة إلى حمل السلاح لاقتحام الباستيل. خلال عصر التنوير، في مقهى "بروكوب"، اجتمع رجال مثل روسو وديدرو وفولتير. بعد الثورة، تلبّست ثقافة المقاهي الباريسية، مرة أخرى، كتّاباً ومفكرين يجتمعون لتبادل الأفكار والعمل على تحفتهم الفنية التالية، فرنسيين وغير فرنسيين من عشاق المدينة وصعاليكها: إرنست همنغواي، جيرترود شتاين، فيتزجيرالد وإليوت.. هؤلاء في "لاروتوند". وعمل أبولينير على استعراضه الفني "لي سواري دو باري في مقهى "فلور"، فيما جلس إلى جانبه أندريه بروتون. وبحلول منتصف القرن، كانت قد وصلت سيمون دو بوفوار، وجان بول سارتر بالطبع، فخلقا فلسفتيهما من طاولتيهما. الأفكار تنتزع حيزها الديموقراطي انتزاعاً.

يقترب من طاولتي التي على الرصيف، رجل رثّ الهيئة مترنّح، تفوح منه رائحة كحول الصباح الباكر. يريد مالاً. لا؟ فسيجارة إذن. لا؟ فلتكن رشفة من فنجان قهوتي! أعتذر بلطف. ليس في الاستطاعة سوى اللطف بموازاة هذه الأبخرة النفّاذة، وربما الانسحاب تكتيكياً إلى الداخل على أمل الخلاص قبل تحوّل المتشرّد إلى زبون.. ذلك أن أحداً لا يستطيع طرد أحد من المقهى إن عنَّ له، كما "رسّامة الحيّ"، التضحية بقطعتين نقديتين لطلب فنجان قهوة.    

increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها