الثلاثاء 2023/05/09

آخر تحديث: 13:25 (بيروت)

جنى الحسن لـ"المدن": لستُ مهووسة بالنشر..ودائماً في رحلة ذاتية

الثلاثاء 2023/05/09
جنى الحسن لـ"المدن": لستُ مهووسة بالنشر..ودائماً في رحلة ذاتية
إن قلتُ للنسويات "كل هذه النظريات عن المساواة وهمية"، سيغضبن مني
increase حجم الخط decrease
في أحدث أعمالها الصادرة مؤخرا، تحكي جنى فواز الحسن عن "عين توران"، تلك البلدة المتخيلة التي لا تشبه أي مكان والموجودة في كل مكان! بلدة لا تعرف الحب، كل شيء فيها منظّم ومحسوب... أسلوب الحياة، أنواع السيارات، حتى نوعية الطعام وكميته، وساعات النوم، وطريقة الاحتفال بالمناسبات. لا يعرف أهلها كيف يكون معنى الفرح النابع من القلب، ولا حتى الحزن لفقدان شخص عزيز. وقعوا في لعنة الاستكانة للخوف واليأس حتى أنهم خافوا من الحرية بسبب المجهول الذي تجره في أذيالها!

تحكي عن ثورة يقودها "هيثم" لتحرير أهل بلدته من "الطبيب" و"الآغا" اللذين فرضا سلطتهما على البلدة النائية بتغييب أهلها بحبة بيضاء غامضة زاعماً أنها تهدئ من روعهم وتمدّهم بالقوة وتمنحهم الصبر على تحمل واقعهم. لكن المهمة لم تكن بالبساطة التي توقعها، لأنهم كانوا أسرى لوهم أكبر "بنوا أسوارهم الخاصة، التي كانت بمثابة حاجز يعزلهم عن كل شيء، عاشوا في أوهامهم ومخاوفهم وحذرهم المبالغ به، أسرى للعنة قديمة ولحاضر فيه الكثير من الريبة بالآخر، ومستقبل مجهول".

تواجه الثورة -ككل ثورة- محاولات لإفشالها، ووصم أصحابها الذين ربما لا يملكون القوة والخبرة الكافية للوقوف في وجه السلطة وأصحاب المصالح، وشيئاً فشيئاً يقعون في الشرك، فتتغير بوصلة ثورتهم، وتتخلى عن مبادئها الأولى ويصبح قادتها وجوها جديدة للسلطة القديمة نفسها. أسئلة كثيرها تطرحها الرواية عن السلطة والتغييب والحرية والوطن، تتطلب فقط فك رموزها، أو حتى ما هو أبسط من ذلك... مجرد استبدال المواقع والأسماء.

مرّت تسع سنوات منذ نشر جنى روايتها "طابق 99" التي ترشحت لجائزة بوكر العربية، وهو توقف طويل تبرره لـ"المدن" فتقول: "من الصعب أحيانًا إيجاد التوازن بين الكتابة والإبداع ومسؤوليات الحياة اليومية. كنت خلال فترة انتقالية، هاجرت خلالها إلى الولايات المتحدة الأميركية، وربما هذا ما تسبب بانقطاعي عن الكتابة، أو ربما الأصح أنني كنت أكتب على فترات متقطعة. هذا كل ما في الأمر".

بدأت جنى كتابة "أسوار عين توران" منذ 7 سنوات تقريبًا، على مراحل متقطعة. تقول إن الفكرة مرّت بتغييرات وتقلبات إلى أن وصلت لشكلها الأخير الذي تبلور في الرواية: "انتهيتُ من كتابتها بشكل كلي، نهاية العام الماضي تقريبًا، ليأتي بعدها قرار النشر. عين توران مكان متخيّل، بلدة صغيرة يتغير مجرى الحياة فيها إلى ما لا يتوقعه أهلها. لكن الرواية أيضًا عن الإنسان ومدى اضطراره أن يشبه المكان الذي يأتي منه". وهنا حوار أجرته معها "المدن".. 

- مدينة مجهولة، وحبة بيضاء غامضة، وأسوار يغرق تحتها الجميع. مجازات بُنيت عليها الرواية بالكامل.. لماذا اخترتِ الترميز الآن بهذا الشكل الذي يظهر للمرة الأولى في أعمالك؟

* هي بلدة وليست مدينة.. والحبة ليست غامضة، هي مهدئ لكن يتضح أنّها مصنوعة من مواد غير فعالة، وبالتالي لا قيمة لها إلّا ما يتوهم الناس حولها. لا أعرف إن كنت قد اخترت الرمزية أم أني اخترت أن أختلق مساحة خاصة أكون أنا التي صنعتها، بمثابة عالمٍ موازٍ. السور ليس مجازًا، هو مشروع حقيقي، لكن له أيضًا دلالة متعلقة بمدى الانغلاق أو الانفتاح على العوالم الخارجية. أنا أخاف دائمًا من التكرار، وأحب التجارب الجديدة، وربما لهذا حاولت أن أحدث تغييرًا في أسلوب الكتابة، ويمكنني القول إنني استمتعت بتخيّل المكان.

- صحيح أن "أسوار عين توران" تغيير في الشكل الفني، لكنك لم تبتعدي كثيراً عن موضوعات أعمالك السابقة... نقد السلطة بكل أشكالها. بشكل عام كيف تختارين موضوعات أعمالك وكيف تحددين شكلها وإطارها الفني؟

* أعتقد أني مشغولة جدًا بأسئلة حول فردية الإنسان وعلاقته بالسلطة والمحيط، ومفاهيم العدالة وحق الإنسان في أن يختار وما شابه ذلك من مواضيع وأسئلة. ولا بدّ أن ينعكس ذلك في القصص التي أرويها. في "أسوار عين توران"، ربما هناك نقد للسلطة، لكن هناك أيضًا شخص يحاول تغييرها، فيقع في شركها، ويطرح عبر تجربته سؤالًا حول ما إذا كانت السلطة تُفسد. أنا لا أنتقد السلطة فحسب، بل أعرض نماذج من التعامل معها، وهي نماذج حقيقية. وفي سياق أحداث الرواية، يظهر أن طعن السلطة مهما كانت جائرة قد يؤدي إلى الفوضى أحيانًا، وبالتالي أنا لا أكتب وجهة نظر أحادية، بل أعرض حالات اجتماعية وإنسانية.

- رغم اختيارك للرموز إلا أنك تفكين شفراتها أيضاً على ألسنة أبطالك -أو بشرح الراوي العليم- فنعرف ماذا تمثل لهم المدينة والأسوار وحتى الحبة البيضاء، بما قد يعتبره البعض بمثابة توجيه للقارئ... بعض الكتّاب قد يشعرون بالضيق إذا لم يلتقط القارئ الخيط الأساسي أو المعنى الذي يقصدونه، هل كان ذلك السبب وراء التفسيرات المتعدّدة عوضاً عن ترك النص للقارئ ليستخرج استنتاجاته.. هل كانت تطوراً طبيعياً في بنية النص أم خشية من عدم فهم القارئ لها؟

* لا أعتقد أنّي قدّمت شروحات تفصيلية ولا أنّي كنت أريد توجيه القارئ، لكني أيضًا لا يستهويني ألا أترك وضوحًا في القصة. كانت هناك تدرجات في القصة، وانكشاف تدريجي لأمور كانت مخفية، وأعتقد أن ذلك أتى في السياق الطبيعي للقصة ولأسلوب روايتها.

- بمناسبة الحديث عن القارئ... العلاقة معه تطورت كثيراً خلال السنوات الماضية، خصوصاً بعدما قرّبت وسائل التواصل بين الكتاب والقراء. البعض صار يشرك قرّاءه في كل مراحل العمل، في حين يفضل آخرون أن تظل المسافة موجودة... كيف ومتى تنظرين للقارئ، وهل ستحاولين تطوير علاقتك معه خلال الفترة المقبلة؟

* ما زلتُ أعتبر الكتابة مسألة شخصية بعض الشيء، وإن كان النشر ليس كذلك. لست على علاقة حميدة أو قريبة من مواقع التواصل ولا حاولت أن أبني جسورًا مع القارئ، ليس لأني لا أحب أن تكون هناك علاقة، لكن فعليًا لأن حياتي مزدحمة ولا أملك هذه الرفاهية. أنا لا أجيد تسويق أعمالي، ولا أعرف حتى إن كنت أريد أن أكون قريبة من عالم النشر بأكمله. وهذا ليس أمرًا حميدًا، وربما هو نابع من رغبتي بالحفاظ على خصوصيتي. الكتب حين ننشرها هي اللغة الوحيدة التي نخاطب بها القارئ. إن وجد فيها ما يلامسه، فهذه أجمل مكافأة للكاتب، وإن لم يفعل، فلا شيء يمكننا فعله حيال ذلك.

- جاء في الرواية على لسان الطبيب: "انظري يا عزيزتي، كل هذه النظريات عن المساواة وهمية، المرأة كائن وجد كل شيء ضده، الطبيعة واللغة والمجتمع، وحتى النساء الأخريات، هي كل شيء وفي الوقت نفسه تُعامل على أنها لا شيء"، يتكرر هذا الحوار بصيغ مختلفة في كل أعمالك. هل هي مجرد انشغالات تصوغينها بأشكال متغيرة؟ أم حضور متعمد ومقصود بمعنى أنك تكتبين بمنطق تبني القضية النسوية؟

* ربما إن قلتُ للنسويات "كل هذه النظريات عن المساواة وهمية"، سيغضبن مني. أنا لا أتعمد تبني القضية النسوية، ولا أعرف ما هي القضية النسوية فعليًا الآن، لأني أؤمن أن هناك الكثير من التخبطات في عصرنا الحالي حول مفاهيم متعلقة بالأدوار الجندرية وعلاقة النساء بالرجال والعكس. يظهر الطبيب هنا كشخص يحقّر المرأة نوعًا ما، على الرغم من أنّه كان قد دفع "لبنى" إلى القراءة وتثقيف نفسها في لحظة ما. أنا أؤمن بالإنسان، وبأن بعض المجتمعات تؤذي بمفاهيم مغلوطة، كلا الجنسين، المرأة والرجل، لكن لا إجابة محددة لدي حول القضية النسوية، وبالتالي لا يمكنني أن أعظ بها.

- الرواية ربما تكون العمل الأول الذي يكتب بالكامل خارج لبنان بعد هجرتك للولايات المتحدة. هل يؤثر مكان الكتابة في طبيعة الكتابة نفسها؟

* لا أعتقد أني تأثرت بالولايات المتحدة كمكان، ولا انعكس الأمر في هذه الرواية، بل تكاد تكون بعيدة جداً عن فكرة أميركا. لا يمكنني أن أتأثر ببلدٍ هاجرت إليه ولم أختبره بعد كما يجب. لكن مكان الكتابة يؤثر طبعاً من ناحية المسافة والابتعاد عن المنشأ، وبالتالي يولد لدى الإنسان اضطرابات وهواجس وأسئلة ربما تظهر في أعمال لاحقة.

- في حديث سابق، قلتِ إن الجوائز أضافت قيمة للتفاعل الثقافي وعزّزت مكانته، وساهمت في تسليط الضوء على الكتاب لكنها في النهاية مكافأة ومحطة. هل يمكن القول إنك توقفت طويلاً في هذه المحطة، أنها ربما وضعت أثقالاً على كاهلك عطلت تقدمك؟

* لا، لم يكن هذا السبب. السبب أني في رحلة دائمة مع ذاتي، ولست مهووسة بفكرة النشر الدائم والوجود في الوسط الأدبي، لأني لا أعرف أصلًا مدى رغبتي بأن أكون تحت المجهر.

- قدمتِ العام الماضي ترجمة لرواية "بحر اليعسوب". لماذا اخترتِ هذا العمل بالتحديد، وهل ننتظر ترجمات أخرى قريباً؟

* كان عملًا اقترحته دار النشر التي أترجم لصالحها ووافقت لأني أحببت الرواية. ترجمت مؤخرًا رواية "مراوغة هارلم" للكاتب الأميركي كولسون وايتهيد وستصدر قريبًا.

- هناك حضور كبير للترجمات الآن، ربما يفوق الروايات المكتوبة بالعربية، وهناك حديث دائم عن تأثير ذلك في رواج الروايات العربية وحتى مستوى كتابتها... كيف ترين المسألة؟ وكيف ترين تأثير الترجمة في كتاباتك الشخصية؟

* أرى أن هناك إنتاجاً جيداً من الروايات العربية في السنوات الأخيرة، وأتمنى أن ينعكس ذلك بشكلٍ أفضل في العالم بأسره. بعض الروايات العربية ممتاز ويستحق مكانة أكبر عالميًا. أتمنى أن نصل يومًا إلى أن "نصدّر" الأدب العربي بشكل أفضل، لأن من يمتلك الحكاية، يمتلك التأثير في العالم، وأنا منحازة بشكل قد يكون غير موضوعي لثقافتنا. لذا، لا أدّعي أني أستطيع الإجابة بموضوعية على مسألة تأثير الروايات المترجمة أو مقارنتها بالأدب الذي ينتجه الكتّاب في الدول العربية. أفضل أن أبقى حالمة.

- هل تنشغلين بموقعك بين كتّاب جيلك؟ وهل حققتِ ما تطمحين إليه على مستوى الكتابة؟

* أنشغل بمسألة الكتابة نفسها. أسأل نفسي أحيانًا: هل هناك مَن يقرأ بعد في زمن سادت فيه السرعة وانعدام التركيز؟ هل فعلًا يمكن للأدب أن يحتفظ بقيمته نفسها في مواجهة غزو المرئي والمسموع وعالم التواصل الاجتماعي؟ وهل يجب أن تتطور الرواية وتقدم أشكالًا مختلفة تواكب العصر؟ هذه بعض الأسئلة التي تشغلني. هل حققت ما أطمح إليه على مستوى الكتابة؟ لا، حتماً لا.

- ما الجديد لديك؟

* هناك أعمال مؤجلة دائمًا، مشاريع نضعها على الرف لبعض الوقت ومشاريع نحاول إكمال السعي إليها. أريد حالياً أن أعود قارئة لبعض الوقت، قبل أن أكتب بشكل جدي ومنضبط مرة أخرى.
_________


جنى فواز الحسن روائية وصحافية لبنانية. ولدت العام 1985، تعمل في مجال الصحافة المكتوبة والترجمة منذ العام 2009، ونشرت نصوصاً أدبية وقصصاً قصيرة في دوريات ثقافية عديدة. أصدرت روايتها الأولى "رغبات محرمة" العام 2009 ونالت عنها جائزة سيمون حايك في البترون، شمالي لبنان. ورُشحت روايتاها "أنا، هي والأخريات" و"طابق 99" للجائزة العالمية للرواية العربية. "أسوار عين توران" أحدث أعمالها وصدرت مؤخراً عن منشورات ضفاف ومنشورات الاختلاف، وبطبعة مصرية عن ديوان للنشر
.

increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها