الإثنين 2023/05/08

آخر تحديث: 12:45 (بيروت)

"مطرب الأمراء" وقد تجاوز النخبة إلى العامّة...بالسينما

الإثنين 2023/05/08
increase حجم الخط decrease
تأمّل مشوار هذا الرجل، فإنك لن تجد إلا عنواناً عريضاً وحقيقة ناصعة، وهي أن تاريخ الفن العربي كله، لم يعرف اسماً تمتع بتلك التجربة الفنية والحياتية الواسعة بمثل ما تمتع به الموسيقار محمد عبد الوهاب. فقد ظل الرجل نحو 75 عاماً، منذ ظهوره في بدايات القرن الماضي وحتى رحيله في 4 أيار 1991، العلَم الأهم في مجال الموسيقى والغناء وصاحب الشهرة الطاغية بين أقرانه جميعاً، بمن فيهم أم كلثوم التي كانت في حالة تنافس دائم معه. لكن طول تجربة عبد الوهاب الفنية إلى جانب تعدّد مجالات عطائه حسما هذا التنافس لصالحه حتى بعد سنوات من رحيله.
وحينما بدأ عقد الثلاثينيات من القرن الماضي، كان عبد الوهاب قد حقق شهرة واسعة خاصة بين أبناء الطبقتين العليا والمتوسطة في المجتمع حتى حظي بلقب "مطرب الأمراء"، لا سيما مع ظهور صوته في الاسطوانات التقليدية في تلك الفترة، غير أنه كان بحاجة إلى زيادة شعبيته وتجاوزه لمرحلة مطرب الصفوة إلى مرحلة مطرب العامة، فضلاً عن رغبته في الانتشار خارج حدود مصر، وهو ما حققته له تجربته السينمائية كمطرب وممثل بداية من فيلم "الوردة البيضاء" للمخرج محمد كريم والذي عُرض في كانون الأول 1933. ورغم أن "الوردة البيضاء" لم يكن الفيلم الغنائي الأول في تاريخ السينما المصرية، وإنما سبقته أفلام عديدة كان أولها "أنشودة الفؤاد" للمخرج ماريو فولبي الذي عرض في نيسان 1932 من بطولة المطربة نادرة والموسيقار زكريا أحمد، فإن الكثير من النقاد ومؤرخي السينما في مصر يعتبرون عبد الوهاب هو الرائد الفعلي للفيلم الغنائي بفيلم "الوردة البيضاء" بفضل جمهوره والدفعة القوية التي خلقها ولوجه عالم السينما، وكذلك بفضل النقلة النوعية التي أحدثها بهذا الفيلم وقد استمرت معه حتى فيلمه الأخير "لست ملاكاً" 1946 للمخرج محمد كريم أيضاً. وبين فيلميه الأول والأخير، قدم عبد الوهاب للسينما خمسة أفلام أخرى، كلها من إخراج محمد كريم، وهي بالترتيب: "دموع الحب، يحيا الحب، يوم سعيد، ممنوع الحب، ورصاصة في القلب".

ورغم أنه لم يُظهر في أفلامه السبعة قدراتٍ تمثيلية لافتة، إلا أن جمهوره لم يُرِد منه أكثر من رؤيته في الشاشة وهو يغني، وهذا ما فعله عبد الوهاب بالضبط، خصصاً أنه اختار أداء شخصيات درامية بسيطة، لم تتطلب منه أداء تمثيلياً محترفاً، وكلها دارت حول شخصية الموظف البسيط أو الشاب الأرستقراطي الذي يواجه صعاباً معينة في الحياة، ناهيك عن أن تجربته السينمائية خلصته من أدائه التطريبي المبالغ فيه، وساهمت في تقليص مدة الأغنية وتنوع أفكار مضامينها تبعاً لتنوع المواقف الدرامية في الفيلم، الأمر الذي أدى إلى سرعة إيقاع أغنياته وحيويتها، ومن ثم قدرتها على اجتذاب المستمعين الشباب في تلك الفترة وتصنيف عبد الوهاب باعتباره أحد المجددين في الموسيقى الشرقية جنباً إلى جنب مع محمد القصبجى ومحمد فوزي.


وقد أتاحت أفلام عبد الوهاب السبعة -بفضل ريادتها- الفرصة للتأكيد على تقديم أشكال غنائية في شاشة السينما لم تكن مألوفة حتى ظهوره، مثل الثنائيات الغنائية (ديالوغ) لا سيما مع حرصه الواضح على تمتع بطلات أفلامه بجمال الصوت مثل: نجاة علي في "دموع الحب"، ليلى مراد في "يحيى الحب"، رجاء عبده في "ممنوع الحب"، راقية إبراهيم في "رصاصة في القلب"، نور الهدى في "لست ملاكاً" وحتى الفيلم الذي لم تكن بطلته تجيد الغناء وهو "يوم سعيد" أتى عبد الوهاب بصوت أسمهان كي تقدم معه شكلاً غنائياً آخر هو الأوبريت السينمائي "مجنون ليلى" من أشعار معلمه الأول أحمد شوقي إلى جانب أغنية فردية أخرى هي "محلاها عيشة الفلاح".

ولم تنقطع صلة عبد الوهاب بالسينما بعد توقفه عن التمثيل عقب تمثيله لفيلم "لست ملاكاً"، وإنما تعددت مساهماته وتنوعت بأشكال مختلفة، فقد ظهر مرتين كمطرب يؤدي إحدى أغنياته، الأولى في فيلم "غزل البنات" 1949 من إخراج أنور وجدي، حينما تغنّى برائعته "عاشق الروح"، والأخرى والأخيرة في فيلم "منتهى الفرح" 1963 من إخراج محمد سالم، والذي غنى فيه أغنيته الشهيرة "قالولي هان الود عليه" كما لم تتوقف علاقته بالسينما كمنتج من خلال مجموعة الشركات التي أسسها أو شارك فيها مثل "فيلم عبد الوهاب" و"شركة الأفلام المتحدة" التي كان فيها شريك لكل من أنور وجدي وليلى مراد، و"شركة عبد الوهاب وبركات" مع المخرج هنرى بركات، ثم شركة "صوت الفن" بمشاركة عبد الحليم حافظ ومجدى العمروسي التي ظلت تمارس عملها حتى سنوات قليلة مضت. ومن خلال تلك الشركات، نجح عبد الوهاب في تقديم عشرات الأفلام المهمة والدفع بالعديد من الأسماء البارزة، أشهرها على الإطلاق: ليلى مراد في "يحيا الحب"، فاتن حمامة في "يوم سعيد"، سعد عبد الوهاب ونعيمة عاكف في "العيش والملح"، عبد الحليم حافظ في "أيام وليالي"، وسعاد حسني ومحرم فؤاد في "حسن ونعيمة" وجميع هذه الأفلام من إنتاج محمد عبد الوهاب.

كذلك، وضع عبد الوهاب الموسيقى التصويرية لأكثر من خمسين فيلماً، وقدم ألحانه لكبار المطربين في أفلامهم وعلى رأسهم عبد الحليم، سعد عبد الوهاب، صباح، ليلى مراد، شادية، فايزة أحمد، نجاة، وردة، وعادل مأمون، بل أن ألحانه وصلت إلى أصوات غير تقليدية مثل فؤاد المهندس ومحمود شكوكو وإسماعيل ياسين، إلى جانب وضع موسيقى الرقصات في كثير من الأفلام لكل من سامية جمال ونعيمة عاكف ونجوى فؤاد وسهير زكي وغيرهن. 
increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها