الأحد 2023/05/07

آخر تحديث: 07:08 (بيروت)

"شروق أورورا" عن إبادة الأرمن..لا تنسوا ضحايا التاريخ

الأحد 2023/05/07
"شروق أورورا" عن إبادة الأرمن..لا تنسوا ضحايا التاريخ
وثائقي استثنائي ومؤثر عن الإبادة الجماعية للأرمن
increase حجم الخط decrease

قصة أورورا مارديغانيان(1901-1994)، التي نجت من الإبادة الجماعية للأرمن، العام 1915، قصة ملحمية ولافتة. فبعد نجاتها من الإبادة ومشاهدة مقتل عائلتها أمام ناظريها، شرعت المراهِقة في رحلة مذهلة تضمّنت السجن داخل حرملك عثماني والهروب إلى الولايات المتحدة. وهناك، بعد أربع سنوات فقط، أعيد سرد قصتها في فيلم هوليوودي صامت قامت ببطولته بعنوان "مزاد النفوس". مجرد التفكير في معاودة عيشها وتمثيلها تلك القصة المروّعة كنجمة سينمائية يجعل الأمر عصياً على التصديق في البداية ثم تقشعر له الأبدان أخيراً.

كل هذا نراه ونستشعره في فيلم جديد أنجزته المخرجة الأرمنية إينا ساهاكيان، بعنوان "شروق أورورا"، عُرض مؤخراً في بيروت ضمن فعاليات النسخة 18 من مهرجان "شاشات الواقع". فيلم ساهاكيان وثائقي هجين (أسلوبياً وبنائياً)، سهل المشاهدة (بالمقارنة مع فظاعة ما يرويه)، يزاوج بين مقابلات أرشيفية مع أورورا ولقطات مرمّمة من فيلم "مزاد النفوس"، كما يعتمد رسوماً متحركة أنيقة وجميلة تتابع بشكل أساسي حياة أورورا طوال أكثر فترات حياتها دراماتيكية. يعتمد الفيلم إلى حد كبير على السيرة الذاتية لأورورا (اسمها) كما سجّلتها بنفسها شفهياً في مقابلة مطوّلة مع معهد زوريان في العام 1984.

"شروق أورورا" هو أول فيلم رسوم متحركة تنجزه المخرجة الوثائقية التي يتضمن عملها السابق "الراقص البهلواني الأخير في أرمينيا" (2010) وميل (2022) - وفي حين أن الرسوم المتحركة المُحاكية للوحات المائية لم تأت بجديد من الناحية الأسلوبية، إلا إن جمالها يعمل كقوة موازنة للأهوال التي يُكشف عنها. من الناحية الهيكلية، يعتمد الفيلم سرداً مرتّباً زمنياً لقصة أورورا (ما يعني بعض التكرار في بعض المواضع) ولكن المحتوى الزاخر لقصته الحقيقية يجعل التجربة بأكملها درامية ومؤثرة.

عبر إعادة تشكيل الذكريات من خلال سردية تجمع بين قوة الشهادة التدوينية، ومشاهد من فيلمٍ كان يعتقد أنه ضاع للأبد، واستخدام الرسوم المتحركة لحمل ثقل أحداث مأسوية؛ يهدف الفيلم، كما استهدفت بطلته في شبابها البعيد، التذكير بالإبادة الجماعية بحق الأرمن ومنع نسيانها. تحيي الرسوم المتحركة تاريخاً منسيًا وخافياً على كثيرين، لأنها تسمح لساهاكيان باستحضار الذكريات واللعب بالتجريدات المرئية وإضفاء ملمس للأحداث. الجهد الإخراجي لافت حيث تصوّر ساهاكيان رعب الإبادة الجماعية دون أن تنسى، في اللحظات المناسبة، الإضاءة على جمال أرمينيا والتركيز على الخراب العاطفي الذي عانت منه أورورا. عمل معقّد وحسّاس ولكن منفَّذ بإحكام وبأقل قدر من الرومانسية.

 

يبدأ الفيلم بلقطات أرشيفية لأورورا، بعدما صارت عجوزاً، رفقة قطّتها، وهي تفتح ملصقاً مهترئاً للفيلم الصامت، وتشير إلى نفسها على الملصق. يتحوّل الفيلم إلى الرسوم المتحركة ليعاود العرض الأول للفيلم الصامت في نيويورك العام 1919، حيث تقول أورورا: "أصبحت نجمة هوليوود حين كان عمري 17 عاماً"، مضيفة، "لكنني لم أكن ممثلة. لم أكن أمثّل. كنت... أُعيد الحياة".

كانت تجربة غامرة وشاقة، اختتمت رحلة طويلة ومروّعة فراراً من مقتلة مجانية بحق شعبها. بعد مشاقٍّ، تمكّنت من الوصول إلى الولايات المتحدة، بحثاً عن شقيقها الأكبر، الناجي الوحيد من عائلتها. التقط قصّتها كتّاب وصحافيون أميركيون أرادوا الظفر بقصة حول "لاجئة جميلة تبحث عن شقيقها". أحدهم كان كاتب السيناريو الشابّ هارفي غيتس الذي دوّن قصتها، وأصبح أيضاً حارسها القانوني. ومع ذلك، أصرّ على تغيير اسمها الأول. كان اسمها الحقيقي آرشالويس، والذي يعني "ضوء الصباح" باللغة الإنكليزية، ولذا قام بتغييره إلى مرادفه الإنكليزي، أورورا.

سرعان ما دخلت هوليوود على الخطّ، وأقنعت الشابّة الجميلة بأن تلعب دورها، ولكن بعد عرض الفيلم التزمت أورورا بجولات للترويج له، قبل أن تُرسل إلى الدير لتتعافى من ضغوط إعادة إحياء الصدمة التي تعرّضت لها. ورغم ذلك لم تتوقف الجولات الترويجية، فقد استأجرت الشركة المنتجة مقلّدات "ليلعبن دورها". بعد إطلاق الفيلم، ورد أن واحدة من كل ثلاث عائلات أميركية ساهمت في الحملة لمساعدة ضحايا الإبادة الجماعية. بمساعدة الفيلم، جمعت حملة قامت بها "مجموعة الإغاثة في الشرق الأدنى" 30 مليون دولار وأنقذت حياة أكثر من 132 ألف يتيم ناجٍ.

على عكس أفلام أخرى من هذا النوع، لا يظلّ "شروق أورورا" أسير سرد تجربة موضوعه/ بطلته، إنما يحتوي على العديد من الملاحظات الخطابية والوثائقية. هنا نجد تصويراً للازدواجية التاريخية لهوليوود: من ناحية، هذا الفيلم يعدّ شهادة دامغة على القوة الإيجابية للفن السابع في إبراز القصص والإضاءة على القضايا الاجتماعية، ولكنه في الوقت ذاته تذكير بكيفية سعي الآلة الرأسمالية الأميركية، المدعومة بنفاق هوليوود، دائماً إلى تحقيق منفعتها الاقتصادية قبل الصالح الاجتماعي؛ فهذا "السيستم" الأميركي فتح عيون جماهير السينما على قضية إنسانية، لكنه استغل أيضاً محنة أورورا لتحقيق ذلك (وتحقيق الكثير من الأرباح في الأثناء).

في التأمّل الأخير للفيلم، تجادل أورورا بأن اللامبالاة التي أظهرها العالم تجاه الإبادة الجماعية للأرمن فتحت الباب أمام الهولوكوست بعد بضعة عقود. تقوم إينا ساهاكيان بإنصاف هذه الحجّة وموضوعها وقصّتها، لأن هذا الفيلم، مثلها، يناضل من أجل تسليط الضوء على ممرٍ تاريخي مظلم والقضاء على أي مشاعر لامبالاة بمواجهة جرائم لا تسقط بالتقادم. "شروق أورورا"  ذاكرة ومقاومة سينمائية تسعى للعدالة، ووثيقة متعددة الأوجه لضمان ألا ننسى أبداً ضحايا التاريخ.

increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها