ليست العملية السردية في الرواية موضوع هذه المادة مجرد واقعة لغوية تبغي الإخبار والقص، إنما السرد ها هنا هو بمثابة عملية استبدال... استبدال الجغرافيا بالكلمات، استبدال الأمكنة بالسطور وبعلامات التوقف وبعلامات الإستفهام.
ثمة ما يشي أنّ العملية السردية في هذه الرواية تستبطن رغبة عارمة بامتلاك المرء لذاته وقد انغلق الواقع أمام هذه الذات عن بكرة أبيه. إنّ "أناوات" ناس "خزامى" تشبه بعمق ذلك المكان الذي قد أدبرتْ هذه "الأناوات" عنه، تشبه العراق الممزق. ثمة شتات يرسم ملامح تلك الشخصيات وثمة تبعثر يرسم حقيقة دقائقها. فلا أحد من أشخاص الرواية قد استقرّ به المقام في بلاد الغربة إلا على سبيل الوهم، ذلك أن مكانهم الأصلي يحفر عميقاً في وجدانهم، فإذا بالنسيان بلا طائل... لتعود الكلمات إلى الواجهة من جديد.
بالنسبة إلى جاك دريدا، ما من نسق سردي يتشكّل إلا بالإحالة (الواعية أو غير الواعية) إلى نسق آخر. أسأل نفسي: ما النسق الأخير الذي قد تحيل كلمات ناس "خزامى" إليه؟ إنه الموت، ذلك النسق اللامتناهي والذي يخطّ سرديات ناس تلك البلاد، وغنيّ عن القول، وسرديات ناس البلاد التي تجاورها... ليظنّ المرء أننا نعيش في أرض ملعونة لا تقتات إلا على أنهار الدماء وبقايا الجثث الممزقة.
الكآبة تتشبّث حتى بأقدام الطاولات
إن الرغبة العارمة بالفرار من القبر هي ما تشدّ من أزر ناس "خزامى"، وبالتالي استيطان بلد آخر، بيد أن ذلك الإدّعاء الصريح بالإنتساب إلى وطن آخر لا يعدو أن يكون نمطاً من أنماط التملّص ونزع الهواجس وإسكان النفوس في وهم راحة البال. فالعالم لا ينفكّ يقدّم نفسه كلغز أمام أنظار هؤلاء الفارّين من أوطانهم حيث "الكآبة تتشبّث حتى بأقدام الطاولات"، إذا أردنا أن نستعير هذه العبارة من رواية "قبلات نيتشه" للانس أولسن.
لا تمهّد حيلة الإنتساب إلى وطن آخر، الدرب إلا إلى مزيد من الضياع، والكلمات في هذا السياق تتجاوز كونها مفردات محض معجمية لتصير ملاذاً للأرواح التائهة. ملاذ غير منجز وغير منتهٍ، إنما هو قيد التشكّل على الدوم.
إن الكلمات مثل العالم، كما تقول إحدى دارسات رولان بارت، لا تقدّم نفسها دفعة واحدة، وفي تأويلها لمجمل فلسفة هذا الفيلسوف كتبت الناقدة الأميركية سوزان سونتاغ: "إن حرية الكاتب هي في جزئها الأكبر هروب"... والهروب في هذه العبارة قد يكون أيضاً وطناً.
في اللغة الأكادية كلمة "إدنو" تعني السهل وفي السومرية هي تعني الأرض الخصبة واللذة والرغبة في آن معاً، وصولاً للعربية حيث كلمة عدن وسائر دلالاتها الجنّوية... أما في "خُزامى" سنان أنطون، فالجنة هي المرادف الواقعي للفرار، للهروب وبشكل خاص للنسيان.
قد ينجح البعض في أن يروّض حواسه على تلقّف الأمكنة الغريبة بيد أن المكان الأول لا يني يخترق برائحته ليس فقط فتحتَي الأنف، إنما أيضاً مَسام الجسد والروح وهو ما تجسّد بعمق في المقطع الأخير من "خُزامى".
للسرد وجوه عديدة، ومن ضمن هذه الوجوه أن يكون استئنافاً لبدء آخر. نعم، فللكلمات هذه القدرة العجيبة في منحنا حظوظ الإنتماء إلى حيّز غير موجود في أرض الواقع. قد تضيق العبارة هنا وقد تزخر بالهمّة هناك، لكنها على الدوم هي وسيلة الغرباء عن العالم. لن يكون ذلك المكان الآخر وطن "عمر" على الإطلاق، ولن يكون وطن أي من شخصيات الرواية. إن وطن هؤلاء الناس، شأن كل المهاجرين في العالم، يكمن في سرد حكاياتهم، في تلك الكلمات الوارفة التي يستظلها المرء هرباً من شمس الرحيل.
في المقطع الأخير من كتاب "هوامش سيرة"، والذي نقله سنان أنطون إلى العربية، يقول خورخي لويس بورخيس تحت عنوان "سنوات مزدحمة" ما يلي: "ما أبحث عنه الآن هو الطمأنينة والإستمتاع بالتفكير وبالصداقة، ومع أنه قد يكون إفراطاً في التمني: أن أحِب وأن أُحَب".
ربما ما يبحث عنه بورخيس هو عينه ما يبحث عنه "عمر" سنان أنطون، وكل الآخرين في رواية "خُزامى"... ربما تلك الكلمات التي نتوسلها من أجل قصّ حكاياتنا هي وسيلتنا في هذا العالم للشعور بالطمأنينة وبالحب وبالإنتماء... بانتظار الهجرة الأخيرة.
اشترك معنا في نشرة المدن الدورية لتبقى على اتصال دائم بالحدث
التعليقات
التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها