الثلاثاء 2023/05/30

آخر تحديث: 14:01 (بيروت)

شوقي يوسف إذ يختصر الطريق إلى النفس البشرية

الثلاثاء 2023/05/30
increase حجم الخط decrease
حين تكتمل اللّوحة، وتجتمع مهارات الفنان المرتقية بها، من فكرة إلى تأليف، إلى توزيع الألوان، وتنوّع الخطوط والخامات والتقنيّات... لا يبقى للّوحة سوى أن تتواصل مع النفس البشرية للمتلقّي، فإمّا أن تتكشّف أمام عينَي المشاهد، الطريق إلى عمق اللوحة الفنيّة وتأذن لها بمحاكاة روحه، وإمّا أن تمرّ عين المشاهد عليها مرور الكرام وتكمل طريقها. 

في المعرض الأخير للفنان اللّبناني شوقي يوسف، تستسلم العيون مباشرةً للوحاته، فتسلك الأعمال الفنيّة الطريق إلى النفس مباشرةً، وكأنّ اللّوحة تصوّر للمشاهد كلّ ما يخالجه من عواطف، وأثقال، وصراعات، وخذلان. يتحيّر المرء أمام تلك اللّوحات ذات الوجهين، فهل هي التي تتلاعب على أحاسيسه وتُريه ما بداخله ليقع في حبّها، أمّ أنّه هو من أحبّها إلى أن أصبحت مرآته؟

في غاليري صالح بركات (بيروت، كليمنصو)، لوحات متنوعة الأحجام وذات وجهين، تجتمع على أسطحها مهارات شوقي يوسف، وتعرض لنا سنوات من الحب، الشغف، التجربة والاكتشاف. لوحات مكتملة، تتنوع فيها السماكات اللّونيّة والتقنيّات التي أصبح صانعها محترفاً في توزيعها بتوازن على سطح القماش. 


تمرّ العين على سطح اللّوحة بسلاسة، فتشاهد المساحات اللّونيّة والخطوط تتصارع مع بعضها البعض ثمّ تتوافق، وبعدها تشاهد الفراغ الذي تُرك بعناية، فتهدأ جميع تلك الصراعات أمامه، وكأنّه سكون ما بعد العاصفة. قد يكون العامل الرئيس الذي يساهم في جعل تلك اللّوحات التجريديّة أقرب إلى عين المشاهد وروحه، هو إصرار الفنان على تعرية ما بداخله وتجريده من كلّ الشوائب، ومن ثمّ إسقاطه بكلّ شفافيّة وصدق على القماش والورق. وكأنّه يحاور نفسه، ليصل إلى أعماقها، ويترجم لنا ذلك العمق دون تردد أو خوف، بل بجرأة، من خلال السماكات اللّونيّة المتعددة، والخطوط القاسية أحياناً والمرنة أحياناً أخرى.

قد يقف بعض محبي الفن أمام لوحات شوقي يوسف حائرين، يتساءلون عن العملية والخطوات التي يعتمدها الفنان في إنجاز لوحاته. هل قام بتجريح القماش قبل استخدامه للون أم بعد ذلك؟ أي طبقة لونيّة باشر بوضعها أولاً؟ وتلك اللّوحات التي تشبه الحائط الذي تآكل وجهه مع الزمن، كيف إنجزها؟ تلك الأسئلة هي دليل على مهارة الفنان العالية وخبرته في التعامل مع التقنيّات وجعلها عنصراً لا يتجزأ من اللّوحة وغير منفصل عنها. وبالحديث مع شوقي يوسف عن العمليّة التي يعتمدها في تعامله مع الورق القطني يقول: "الورق الذي أستعمله يُعد سيمكاً في طبقاته، أرسم على سطحه باستعمال شفرة الورق، ثمّ أضيف اللون المخفف مع المياه، وبالتالي يتفكك الورق، فأبدأ بتقشير سطحه واكتشاف طبقاته. تلقائيّاً، عندما أقشر الورق، تختلف سمكاته، ويختلف تأثير اللون عليه، من سماكة إلى أخرى".

كما تتضح في بعض اللّوحات مهارته العالية في تشريح الجسد الإنساني. فعلى الرغم من المنسوب العالي للتجريد ولتحوير الأشكال، إلّا أنّ المشاهد يستطيع أن يرى ذلك الجسد بكلّ وضوح دون أن يشعر بخلل في معاييره التشريحيّة. إضافةً إلى أنّ الفنان لا يتعامل مع الجسد على أنّه عنصر أساسي في اللّوحة، تتمحور حوله العناصر الأخرى، بل هو عنصر يتلاشى في حضن تلك العناصر. وفي الكثير من الأحيان، لا يستطيع المشاهد أن يرى الجسد أو الوجه الإنساني بعينه المجرّدة، ولكنه بطريقة ما، قد يشعر بوجوده.


لوحات كبيرة الحجم، منفَّذة على قماش مشدود داخل إطار خشبي، لوحات ذات وجهين، تتساءل أمامها، أي وجه منهما هو الأصدق؟ وأي وجه هو المكمّل للآخر؟ وكأنّ الفنان ينجز الوجه الأوّل، من اللّوحة، ثمّ يحاوره بهدف إعادة اكتشاف حقيقته، ليعود ويصيغ تلك الحقيقة على الوجه الآخر للقماش. فيعجز المشاهد أن يتعرّف على الوجه الذي نُفذ أوّلا ً، فكلاهما أصدق من الآخر. وهنا يستوقفنا شوقي ليؤكد لنا بأنّه لم ينته من عمل وجه قبل الآخر "وجها اللوحة، ليسا عبارة عن وجه منفذ قبل الآخر، عملت على قماش غير مؤسس، وتحاورت مع وجهي اللّوحة في نفس الوقت. أضيف اللّون على وجه اللّوحة، ثمّ أستدير لأرى تأثيره على الوجه الآخر، وهذه الوجوه، هي كناية عن عمل مستمر من التعمير والتهديم، فأصبحت اللّوحات تحمل هاذين النعصرين- الهشاشة والتكدّس".

اللّوحات المنفذة بحجم صغير، هي ذات وجهين أيضاً، وضعت داخل إطارات زجاجيّة، تسمح للمشاهد بأنّ يراها من الجهتين. والأخيرة رغم صغر مساحتها، تتنوّع عليها أيضاً الخطوط والتقنيّات، ولكنها مع هذا تُشعرنا بتلك البساطة الجميلة وغير المفهومة، فتأسرنا بشفافيتها.

لم يعتمد الفنان حالة لونيّة واحدة لجميع اللّوحات، بل قام بتنويعها، ومع هذا فإنّ جميع اللّوحات تحاكي روحه وشخصيّته الفنيّة التي باتت مألوفة. وقد يكون هذا أكثر ما يميّز شوقي يوسف كفنان تشكيلي. فرغم قدرته على تكوين هويّة فنيّة مميزة ومستقلّة، والحفاظ عليها، إلّا أنّه لا يقع في التكرار، بل إنّ أعماله دائمة التجدد والتطور، إن كان من ناحية التلوينات والتقنيّات المستخدمة، أمّ من ناحية الموضوعات المطروحة وتكويناتها. ويتجلّى هذا التنوّع والتجدّد في معرضه الفردي القائم حاليًّا.

يمتلك شوقي یوسف لغةً تشكیلیّة خاصة به، تخاطب النفس البشریة دون تكلّف. رغم أنّ الأعمال الفنیّة التي تعرض حالیّاً، تتضح أنّھا نتیجة تجارب ومثابرة ودراسة، إلاّ أنّها لم تفقد عفویتھا وصدقھا. وحین تجتمع المھارة مع الصدق لإنجاز عملٍ فنيّ، يصبح العمل سلساً في محاورة ولمس النفوس.

(*( يستمر المعرض حتى 3 حزيران، في غاليري صالح بركات (بيروت، كليمنصو).
للإستعلام: 01365615.
increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها