السبت 2023/05/27

آخر تحديث: 13:54 (بيروت)

"القفطان الأزرق".. تطريز الزمن على الشاشة

السبت 2023/05/27
"القفطان الأزرق".. تطريز الزمن على الشاشة
حصل الفيلم على ثلاث جوائز ضمن مسابقة جوائز النقاد للأفلام العربية، على هامش مهرجان "كان"
increase حجم الخط decrease
في فيلمها الثاني، "القفطان الأزرق"، تقدّم المخرجة المغربية مريم التوزاني، عملاً موشى بتأنٍ وبدقة مغرقة في التفاصيل، وهي تنسج سردية متعدّدة الطبقات تزحزح حدود تناول المثلية الجنسية في السينما العربية نحو تخوم جديدة، غير مغلقة على تنميطات الألم أو الشهوة، بل منفتحة على الرقة بالأساس.

المشهد الأول، وفيه يد تمسد برفق على الحرير اللامع، يلقى بظل شبقي يحوم طوال الفيلم من دون أن يستقر على موضوع واحد للرغبة. يدير الزوجان مينة وحليم، متجراً لحياكة القفاطين التقليدية في مدينة سلا المغربية. في داخل المشغل بعيداً من العيون، يعكف حليم الانطوائي، بتروٍّ، على تطريز بضاعته يدوياً، بحسب تقاليد مهنة عتيقة توشك على الاندثار، فيما المنافسة غير المتكافئة مع ورش التطريز بالماكينات تهدد تجارتهما العائلية. في الناحية الأخرى من واجهة المتجر، تقف مينة ذات الشخصية القوية لتدير المفاوضات الخشنة مع الزبائن المتعجلين والساعين للمساومة على السعر، حتى تتيح لزوجها فسحة الوقت اللازمة لعمله الهادئ والشغوف، وسط عصر صارت سمته السرعة.

يستحوذ الزمن على موقع المركز من أحداث الفيلم، هو مادتها الخام ومعيارها. فكما أن مقاومة التغيير التي يتمسك بها الزوجان هي عناد ضد تيار الزمن، فهي إيمان به. يراهن حليم على الوقت، واثقاً في أن عقد خيوطه الذهبية المجدولة بسنواته، قادرة على البقاء من جيل إلى آخر، فيصير عمر الثوب أطول من عمر صاحبه. بإخلاص لجماليات الصورة السينمائية، بوصفها بالأساس رصداً للزمن، تقوم مشاهد الفيلم المقربة للوجوه والأثواب وغرز الإبر، عقدة بعد عقدة، مع الإضاءة الناعسة والحركة المنسابة في تمهل، بتهيئة الفرصة لإدراك حضور الزمن ومراقبة تدفقه على الشاشة. ومن ثم الإمساك بالهبة الفريدة للسينما، أي الرصد الدقيق للعالم، لتلك الحياة البسيطة الموزعة بين المتجر والبيت، والتأمل فيها حتى تتجلى الشعرية الكامنة بين طيات تفاصيلها المتواضعة. 


مع ظهور يوسف، المتدرب الشاب الذي انضم إلى المتجر للتتلمذ على يد "المعلم" حليم ومساعدته بغية تلبية طلبات الزبائن، تتوتر العلاقة بين الزوجين. من دون الحاجة للكثير من الكلمات، وبتقشف يكتفي بالحد الأدنى في الحوار، تتكشف أمامنا علاقة ثلاثية عبر النظرات والإيماءات وتعبيرات الوجه المتبادلة بين أطرافها. لطالما عرفت مينة، سر زوجها، رغبته المثلية وتردده على الحمّام لممارسة الجنس مع الرجال، وبحبٍّ تتستر عليه. يعيش الزوجان في سعادة، وفي أحد من المشاهد، حين يمارسان الجنس معاً، يكون من الواضح أن ذهن حليم في مكان آخر. تقوم الغيرة التي تشعر بها مينة تجاه يوسف، وإحساسها لاحقاً بالذنب كونها وبّخته أكثر من مرة، برسم مخطط معقد للحب وأشكاله المشرعة على الاحتمالات، حب مفعم بالتضحية والتسويات وبعض الغضب والتواطؤ الحنون. 

لا يقتصر فعل الزمن على عالم الأشياء والصور وحده. نكتشف إصابة مينة بالسرطان، ويتداعى جسدها بوتيرة مضطردة تحت تأثيره. في النصف الثاني من الفيلم، يتفرق الزمن في اتجاهين، أحدها نحو الاكتمال وحليم يعمل على تطريز القفطان الأزرق، وإلى الجهة المقابلة ينحدر الآخر في طريق التفسخ ومينة تقترب من الموت. ويبدو تسارعه في اتجاه، مرتبطاً بدفع عجلته في الجهة الأخرى، بالوتيرة نفسها.

في الأيام الأخيرة لمينة، يتوقف حليم عن الذهاب إلى المتجر، ويعكف على رعايتها بحنانه ورويّته المعتادة، ويعاونه في تلك المهمة يوسف. ويتصدى الأخير لمهمة الاستمرار في العمل بالمشغل بدلاً من أستاذه. هكذا يكتمل تسليم التقاليد إلى جيل جديد. نحو النهاية، يبيح الفيلم إمكانية قراءته كمجاز عن الجميل، الذي -على الرغم من فناء البشر المحتوم أو بالأحرى بفعله على وجه التحديد- هو فرصتهم الوحيدة لمغالبة الزمن. 

حصل الفيلم على ثلاث جوائز ضمن مسابقة جوائز النقاد للأفلام العربية، المنظمة على هامش الدورة الحالية من مهرجان "كان" السينمائي. وذهبت جائزة أحسن سيناريو لمريم التوزاني ونبيل عيوش، وجائزة أحسن ممثلة لبطلته المغربية البلجيكية لبنى أزابال، وجائزة التصوير للبولندي فيرجيني سورج. 
increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها