وإذ يجمع الشرقيّ بين متناقضاته كلها، تراه غير متصالحٍ مع نفسه في الكثير من النواحي، فهو مع الشيء وضدّه، متشدّد في أمرٍ ما ومتساهل فيه في مكان آخر، من دون أن يؤدّي ذلك إلى إنكار عدميّ للمتناقضات.
روّاد النهضة
كانت "النهضة" إصلاحية من نوعٍ آخر. فهي عبارة عن قطيعة على مستوَيَيْن، أوّلاً مع التقليد الشرقي أو السياسات السابقة، على غرار الإسلاميّين، ومع حالة انحطاط الشرق، بعكس الاسلاميّين. لقد حملت النهضة، حيّوية جديدة تميّز بها النهضويّون كونهم أعملوا الفكر، وراحوا يُفتِّشون عن "مجهولٍ" أو أمرٍ "خفيّ" (inconnu) يجب التفكير فيه، وهو ما يضرِب أشكال اليقين التبسيطيّة القائمة، وما يعني العودة إلى التعقيد، ومع التعقيد إلى حبّ الذات.
إن ما يخفيه تاريخ الشرق هو هذه الحاجة إلى إنكار الذات تبعاً لديناميةٍ موروثة، والتي فاقمتها تدخلات الغرب أو التواصل مع حضارته المتقدّمة. وهذا الانكار هو نتيجة الخجل بهذا الشرق في تخلّفه وانحطاطه وعجزه. ولقد كان الحلم المشترَك عند كلّ طليعيّي النهضة، ومنذ القرن العشرين الزاهر وحتى زمن القوميّين الاستبداديّين ودعاة الاشتراكية وحتى الماركسيّة، هو إلغاء الشرق والتحوّل إلى نوعٍ من "غربٍ" بسيط عقلاني وفعّال، وهو ما سرّع في انهيار الشرق. فالكل أرادوا أن يجعلوا من بغداد أو بيروت ضاحية من ضواحي نيويورك.
ويرى لوباسكور أنّ في سلوك هؤلاء النهضويّين قطبة خفيّة، أو خديعة، لا تخفى آلية عملها على النبهاء، وهي تقضي بتمجيد الهوية التي يعملون على تدميرها وتمجيد الماضي الذي يريدون تصفيته. لكن من ناحية أخرى، أبرزت النهضة التناقض والتعارض مع الحركات الاصلاحيّة الإسلاميّة التي تميّزت بالتزمّت، ولم تذهب إلى ما هو أبعد من ظاهر الكلام.
وأيّاً يكن، فمع هؤلاء الروّاد في مرحلة العشرينات، وبعد سقوط الدولة العثمانيّة التي كان الانحطاط معها أكيداً، استُعيدت الثقة وجرأة الاعتراف بالذات، لكن نكبة فلسطين في آخر الأربعينات شكّلت سقطة جديدة، إذ أغرقت الشرق مجدَّداً في العار، ومجدّداً كره الشرقيّون حضارتهم وثقافتهم وماضيهم.
القوميّون والإسلاميّون
لفهم موقف القوميّين، ومعهم الإسلاميّون، يقيم لوباسكور الفرق بين الهوّية (identité) والهويّاتيّة (identitaire). فالهوية لا تعي ذاتها إلا بشكل غامض وضبابيّ، وهي لا تبرز إلا في حالات استثنائيّة، عند التعرّض للخطر أو لاعتداء... وهي أساساً معقَّدة ومتراكبة تاريخيّاً كونها في تطوّر مستمرّ يحولّها ويعيد قولبتها لتصبح هوّية أخرى مختلفة. وباختصار فإنّ الهوّية هي وليدة عمليّات "مراكمة" و"تحوُّل" و"نقل" (أو تناقل).
أمّا "الهوّياتيّة" فلا شأن للنقل فيها، بل هي تقول بوجود ثابتة تاريخيّة كبرى لا تدين بأي جديد للجيل السابق مباشرة، أي المفترَض أنّه ينقلها. هي عملية "تماثُل" أو "تَكَنُّه" (تحقيق الذات). وهي، بعكس الهوّية، عمليّة وعي واثقة من الكينونة أو مما نريد أن نكون عليه، وكوننا نريده يعني أنّه لم يعد موجوداً، ولأنّه لم يعد موجوداً تبرز الحاجة إلى التباهي به (أنا فخور بأنّني "كذا"...). وتصبح الهوّية وعاءً لكلّ المكبوتات، تُرمى فيه بشكل كاريكاتوريّ كلّ الرغبات التي لم تتحقّق. وهنا لا ينتبه مصنّعو الهوّياتيّة، الذين لا يتوصّلون إلى معرفة ما كانت عليه الهويّة، إلى أنّهم يغشّون، وأنّهم يخدعون أنفسهم أوّلاً بأوّل. فيتساءل لوباسكور مثلاً عن دلالة كلمة "عربيّ" وعلى من تنطبق هذه الصفة، ليشير إلى أنه كان يُشار بها تحديداً إلى بدو الجزيرة العربيّة لا أكثر، أما سكان العراق وسوريا ولبنان وفلسطين ومصر فما كانوا قبل الاستقلالات يعتبرون أنفسهم عرباً. فكيف شملت "العروبة" الشرق كلّه بما فيه حتى من مسيحيّين ويهود. ويرى أنّ القاسم المشترك هو اللغة العربيّة ولذلك أطلقت الصفة على الناطقين بالعربية لتمييزهم عن الغربيّين، ثم اعتُمِدت لتمييز أهل المنطقة (لغويّاً) عن "التُركي"، ولذلك وجد فيها القوميّون ضالتهم لأنها تناسبهم ببساطتها. وبذلك تكون "النهضة" قد كذبت من البداية لأنها قامت على إلحاق الشرق بأكمله بمنطقة فرعيّة منه.
وكذلك قلْ عن الإسلاميّ الذي يصوّر مجتمعات الإسلام الأولى، على أنّها مثاليّة طاهرة وطوباويّة على غرار جماعة "الحزام الإنجيليّ" الأميركيّ، فهو إنما يصدّق نفسه لأنّه يتخيّل ذلك، ولأنه ليس هناك من يمكنه أن يناقضه في ذلك لأنّه بعيدٌ منه مئات السنين. ويخلص لوباسكور إلى أنّ الهويّة هي عملية "تحوّل" فيما الهوياتيّة هي عمليّة "تجمُّد".
وكما عند النهضويّين، فإنّ كره الذات نتيجة وجود المحتلّ، أو استمرار سطوته، تجعل الشرقيّ مغلوباً على أمره لأنّه لا يساوي شيئاً. وهذا الكره يفاقم كراهيّته للمحتل لأنّه ظَهَّر له هذا التخلّف وهذا العجز. وبالتالي عندما يريد المرء في هذه الحالة أن يكون هو ذاته، أن يكون ما يريد أن يكون عليه، يجد نفسه أمام حلَّيْن جذريَّيْن، إما تغيير الهوية، وهو ما يتحقّق بالهجرة وما يتبعها، وإمّا باختراع سيرة حياة جديدة، أي بإعادة رسم الماضي السحيق بعد الضرب صفحاً عن التاريخ القريب الزاخر بالشواهد التي يمكن أن تناقض أو تسقط المشروع. وهو ما يفعله القوميّون العرب عندما يغضّون الطرف ويتغافلون عن التواريخ المتأخّرة (إهمال النظر في المرحلة العثمانيّة مثلاً الزاخرة بالوثائق والمدوّنات) ويعودون إلى الماضي البعيد حيث يمكن صناعة هوّية لا شيء يمكنه التشكيك في مقوّماتها.
وهنا يمكن النظر في بُنية الشرق المتكرّرة في القرن العشرين، فإذا ما تُرِك لحاله، تردّد بين طريقين، الانبعاث أو الزوال. لكنه، عندما يتعرّض لاعتداء من الغرب، يسقط مجدّداً في الإنكار وفي الكراهيّة، كره الذات وكره مَن دفعه إلى كره ذاته (اجتياح العراق مثلاً، بعد حرب الجزائر وبعد نكبة فلسطين).
لكن مشكلة القوميّين المثقّفين، تكمن في عدم قدرتهم على ملء الفراغ بعد سقوط الإسلام التقليديّ. كما أنّ الحركات الإصلاحيّة الإسلاميّة تميّزت بالتزمّت، ولم تذهب إلى ما هو أبعد من ظاهر الكلام. فلم يعد المطلوب عندهم يقظة الشرق ولا يقظة الإسلام، بل ترسيم (إضفاء الطابع الرسميّ) على السُّبات، والإطمئنان إلى ما هم فيه. وهذا ما يُعتبَر استمراريّة لحالة الانحطاط.
فالإسلاميّون والقوميّون على حدٍّ سواء أقاموا الحواجز التي تحرّم التعمّق والتعقيد، فاكتفوا بظواهر الأشياء سعياً إلى الإطمئنان وخوفاً من مفاجآت المجهول. وما فاقم من حالات اليأس والإنكار هو الاحتلالات الغربيّة المباشرة، ثمّ وصول العسكريّين الأغبياء إلى الحكم في الكثير من دول الشرق. ولا يرى لوباسكور أي فضلٍ للعسكريّين في النهضة، ويأخذ الناصريّة مثلاً، ويبيّن أنها لم تترك إنجازات مهمّة للمراحل اللاحقة، وما تحقّق في زمنها كان استمراراً لما كان من قبل. فهي مرحلة لم تدُم طويلاً لتحقّق إنجازاتها الخاصّة، وعملياً عندما تكون هناك إنجازات، يجب أن تدوم من مرحلة إلى أخرى، وليس هذا وضع الناصريّة.
ولأنّ لبنان قاوَم نزع الصفة الشرقيّة عنه، ظلّ بلداً جميلاً وممتعاً، وهو ما ولّد هذه الكراهيّة تجاهه في نفوس القوميّين والإسلاميّين، وجعلهم يشمتون فيه عندما غرق في الحرب وفي كلّ مصائبه. رأوا في الحرب قصاصاً له لأنّه رفض الانصياع لنموذجٍ أخلاقيّ عقلانيّ ومتفائل مستورَد من النماذج الغربيّة. لقد رأوا فيه "بلداً خفيفاً جدّاً، فيه الكثير من الموسيقى والغناء، قليل الجدّية، مأسويّاً جداً وقديماً جدّاً، محافظاً ومنفتحاً لا يعبأ بالأخلاقيّات، وليس منتِجاً، كثير التغيّر وضارب في القِدم. فلبنان ظلّ شرقيّاً أكثر من غيره. وكانت الحركات القوميّة تتحرّق للتخلص من هذه الحالة الشاذّة".
إنّ ما يريده هؤلاء، والإسلاميّون على الأخصّ، هي المعارك المستدامَة وليس النصر. يطيب لهم فقط الصراع والاستفزاز والجدل، ويفتّشون دوماً عن القضايا التي تسمح لهم بهذه الممارسة.
العلاقة بالغرب
من المفارقات التي يشير إليها لوباسكور، ويرى ضرورة للاعتراف بها وإن كان البعض لا يستسيغها، هي أنّ الانفتاح على الغرب يساهم في "إعادة تشريق الشرق" لأنّه يُعيد إحياء المساءلة والالتباس والحياة. وهذه حال الكثير من الأدباء والمفكّرين والفنانين الشرقيّين من العرب وغير العرب الذين يدّعون التمزّق الداخليّ بين هوّيتين، في حين أنّهم بالتعقيدات التي يعالجونها، شرقيّون أكثر من أي وقت، شرقيّون كلّما ازداد فضولهم لفَهم الغرب. هم جميعاً يزورون الغرب ويطّلعون على كتبه وفنونه من دون أن يكنّوا له أي ولاء.
ثمّ إن المثقَّفين المحتكّين بالغرب هم الذين يتقنون تفسير وتحليل الآداب والفنون الشرقيّة والإسلاميّة. هم الذين يحاولون إحياء الحضارة الشرقيّة، بعكس "مُدَّعي" النزعة الشرقيّة الذين يهاجمون الغرب ويغرقون تماماً في تقليد مظاهره السطحيّة. وهذا ما حدث في ثلاثينات القرن الماضي، مع الانفتاح والشكّ وطرح التساؤلات الجوهريّة، مع تحرّر المرأة مثلاً في بيروت ودمشق والقاهرة. كأنّ الشرق لا يكون شرقاً إلا عندما يشكّ في كلّ الصيغ.
ومع أنّ لرجالات النهضة إسهاماتهم إلا أنّ النهضة بقيّت هشّة، على الصعيد الفكري والروحي، ولا نعرف ما الذي كانت ستعطيه لو أنها تبلورت كما يجب.
خطأ الغرب أنّه اعتبر أنّ لبنان تميّز من حيث التمدّن والحرية عن سائر الشرق بفضل المسيحيّين الذين انفتحوا على الغرب وتأثروا به. لا يمكن إنكار دور المسيحيّين هذا، لكن اللبنانيّين ظلّوا شرقيّين حتى في اتّصالهم بالغرب، وهذا ما جعل منه بلد الفكر والإبداع والفرح وحرّية المرأة.
وتبقى المفارقة قائمة: إنّ الانفتاح على الغرب هو مصدر توليد الحيويّة للشرق، لكن عندما يصل الأمر إلى مسألة الخضوع لنظام عقلانيّ وأخلاقيّ على الطريقة الغربيّة، يحدث الانغلاق على الثقافة الأوروبيّة، إنّما ليس على أحدث منتجاته الصناعية والتقنيّة التي يُقبل عليها الإسلاميّون بشغف كما يُلاحِظ لوباسكور في السعوديّة مثلاً.
إن القوميّين- الإسلاميّين، الذين تغرّبوا، يرفضون الانفتاح على الغرب، وذلك لأنهم يخافون الاضطراب والشكّ والتعقيد، ويسعون إلى العكس، أي إلى السطحية والتبسيط، تماماً مثل الأميركيّين مثالهم الأعلى (البروتستانت المتشدّدين على الأخصّ، ويسجّل الكاتب الكثير من القواسم المشتركة بين الطرفَيْن).
فلماذا يصبح أتباع العقلانيّة الغربيّة إسلاميّين؟ ذلك لأنّهم تلامذة العقلانيّة الغربيّة، فمعظم القادة الإسلاميّين هم مهندسون، أي من أصحاب الميل العلميّ العقلانيّ، وليسوا ممّن تلقّوا تعليماً وإعداداً دينيّاً. وليس هناك ما يدلّ على أنّ من قرأوا كبار الكتاب الشرقيّين قد أصبحوا إسلاميّين.
وليست المواجهة مع النموذج الأميركيّ، فالوهابية سبقت بقرنين أولى بعثات الطلاب السعوديّين الذين درسوا في أميركا. فالتغريب ليس "تأثيراً"، بل نزعة عالميّة عند كلّ الحضارات، لكنها تحقّقت في الغرب قبل غيره وبشكلٍ أكمل... لذلك هيمن الغرب إيديولوجيّاً على العالم. وأصحاب هذه النزعة (القوميّون والإسلاميّون في حالة العرب) قلّما يرتاحون إلى الاتصال بهذه المجتمعات، الأميركيّة والأوروبيّة حيث نجحت هذه النزعة في محو كلّ شيء ما عداها.
أما سبب هذا الخلط فهو أن السياسيّين والصحافيّين يبنون آراءهم على معلومات تاريخيّة (ما كان من قبل) في حين أنّ المفروض البناء على دراسة الأنساب، أي الأصول (ما هو خفيّ في كلّ وقت)، لكي نتمكّن من فهم الطبيعة البشريّة الموروثة أو المتكوّنة التي تؤدّي إلى ما يعيشه الشرق. فالصور والمفاهيم التي تعرض في التلفزيونات والإعلام، والقائمة على دراسات واستنتاجات تاريخيّة، تشوّه الحقائق أو تخفيها، ولا تضع الإصبع على الجرح...
وأخيراً لقد انتقلت أوروبا الآن من الشعور بالذنْب وتحمّل المسؤولية عمّا آل إليه الشّرق، إلى توهُّم البراءة، وهي بالتأكيد ليست بريئة كلّياً. ويعترف الكاتب أنّه كان من الجيل الذي يبرّئ الغرب، لكنه رأى في النهاية ما كان يرفض رؤيته. فليس الشرق هو الذي يدمّر نفسه بل الغرب هو الذي يدمّره. ووعي الحاضر هذا يُفتَرض أن يقود إلى إعادة قراءة الماضي. فعلى ضوء صدمات الحاضر، يمكن فهم ما كانت عليه صدمات القرن العشرين.
المرأة اللبنانيّة وسائر النساء
بعد استعراض مختلف الفئات الشرقية في تعاملها وموقفها من الغرب، وأثر ذلك في المجتمع الشرقيّ، ومن خلال فهم هذه العلاقة الجدليّة بين الشّرق والغرب، يعود لوباسكور إلى الإجابة عن سؤاله الأساسيّ حول سبب إغراء النساء اللبنانيّات.
فاللبنانيّون، في انفتاحهم على الغرب، لم يتخلّوا عن شرقيتهم، ومن هنا حرّية المرأة فيه. وإذا ما عدنا إلى فكرة التعامل مع التعقيدات والمتناقضات، يمكن العودة إلى الجواب الأوّلي عن السؤال الأساسيّ (الصدّ والإغراء). فما يصنع الإغراء عند المرأة اللبنانيّة الفاتنة هو التعقيدات الشرقيّة في لعبتها. وإذا ما كانت اللبنانيّة الجديدة تثير نوعاً من الاستياء فذلك لأنّ لعبتها، كما في العمليات التبسيطيّة التي يجريها الإسلاميّون، "تتبسَّط، تتغرَّب وتتراجع من الإغراء، ما بين الوعد والرفض، إلى عرض المفاتِن بشكلٍ بليد وباهت". هذا التبسيط هو المرض الذي يتآكَل الشرق الحديث، ولا فرق بين المهووسات بلبس الحجاب (السطحيّة في تبسيط الحشمة) وبين المتحمّسات للعمليّات التجميليّة (السطحيّة في تبسيط الجمال واستعراضه). كلا الطرفين يعتقد أنّه يستأنف التقاليد (في الصدّ والإغراء) في حين أنّه يخالفها ويخرج عنها.
من يعِش مثل الكاتب في لبنان، يكتشف النساء من الطراز القديم جدّاً، والبعيدات كلّ البعد من المرأة الساعية إلى العمل أو إلى فرض شخصيتها ومجاراة الرجال وبناء حياتها الخاصّة وفق نمط الحياة الغربيّ. فالمرأة اللبنانيّة مثلاً لا تعمل إلا مضطرة أو للتسلية، ولبناء الصداقات وتقطيع الوقت في انتظار الزواج، بحسبه. بينما لاحظ الكاتب في سوريا مثلاً أن المرأة المحجّبّة هي امرأة عاملة، وفي ذلك دلالة على التأثير الغربي لا الشرقي. فعملهنّ على الطريقة الغربيّة هو من أجل تحقيق المجتمع السعيد المطمئنّ.
خلاصة
بعد اليقظة الناقصة إنما الواعدة ما بين الحربين، حدثت الانقلابات وسيطر العسكر وأصبح الجو ضاغطاً في كلّ مكان. والحال أنّه إذا ما تُرِك الشرق مطمئنّا قليلاً لن تلبث أن تبزغ مجدّداً الرغبة في الحياة.
لكن يصدر دائماً عن الغرب ما يعيد خلط الأمور ويعود بها إلى بداياتها. فقد احتلت اميركا العراق، وتمادت إسرائيل في السلب والقتل في فلسطين، من دون أن تبادر أوروبا إلى أي ردّ فعل إيجابيّ وإلى تطبيق مواعظها. إزاء هذه الاعتداءات والذلّ لا يكتفي الشرقيّ بكره خصمه، بل يعود إلى كره الذات... ويعود إلى تحوّلات بسيطة وجذريّة في حياته. وتعود لغة التخوين.
في القرن العشرين لم يكن من شأن الشرق سوى التدمير الذاتي، وإن كان بعض الشرقيّين المتواطئين مسؤولين عن ذلك، إلا أنّ هذا لا يخفّف من مسؤوليّة الغرب الذي، لولا تدخّلاته المتتالية، لما كان ضاع كلّ شيء.
في النهاية يقدّم لوباسكور نصيحة قد لا يقدمها المؤرّخون: إذا كان الأوروبيّون قلقين على الشرق ومهتمّين لأمره، فليدعوه وشأنه من دون إطراءات ولا توبيخات في معظم الأحيان، وهو كفيل بأن يستعيد الحياة والحيويّة بكلّ وجوهها.
ويختم بتساؤلين قد تكون الإجابة عنهما سلبيّة:
- هل سيتشبّث الشرق بالانبعاث مجدّداً؟ هناك مجال للشكّ في ذلك!
- هل سيتحلّى الغربيّون بالقليل من بُعد النظر؟ أخشى أن يكون الشكّ كبيراً!
_______________
[1] . إيف لوباسكور (Yves Lepesqueur) عمل وعاش في لبنان وسوريا والسعودية كما في إيران. هو أيضاً محرّر متخصّص يكتب زاوية في المجلّة الفصليّة محتَرَف الرواية. من أعماله دراسة بعنوان أعياد الربيع قديماً في حمص. نشر مؤخّراً كتابه هذا "لماذا تمتاز المرأة اللبنانيّة بالإغراء؟" (Pourquoi les libanaises sont séduisantes?) في دار لارماتان (L’harmattan)، باريس، 2022.
[2] . . يشير الكاتب إلى أنّه يعتمد دوماً تسمية "الشّرق" ومشتقاتها للدلالة على "الشَّرقَيْن الأدنى والأوسط"، لافتاً إلى أنّه كان بإمكانه اعتماد تسمية "العالم العربيّ الإسلاميّ" لكن ذلك كان من شأنه أن يهمل الشرقيّين غير المسلمين من يهود ومسيحيّين وغيرهم، وكذلك غير الناطقين بالعربيّة مثل الأرمن والأكراد والفرس والأتراك. كما أن في كلمة "الشّرق" دلالة على استمراريّة ثابتة منذ الأزمنة القديمة يوم لم يكن الشرق مسلماً ولم يكن عربيّاً إلا بشكلٍ هامشيّ.
اشترك معنا في نشرة المدن الدورية لتبقى على اتصال دائم بالحدث
التعليقات
التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها