الخميس 2023/05/25

آخر تحديث: 13:36 (بيروت)

"موت متواصل" لجورج يرق‎‎

الخميس 2023/05/25
"موت متواصل" لجورج يرق‎‎
increase حجم الخط decrease
*فصل من رواية لجورج يرق عنوانها "موت متواصل" ستصدر قريبًا عن دار"مختارات" ودار "تواصل للنشر". وهي الثالثة له بعد "ليل" و"حارس الموتى".

عشر سنين.
لم يتغيّر شيء.
الجميع تغيّروا، تقدّموا في دروسهم، وهم يتطلّعون إلى المزيد من النّجاح.
إلّا أنا لم أتغيّر، ولم تتغيّر عاداتي التي أَلَفِتُها منذ أصبح عالمي في رأسي.
ما زال الراديو رفيقي المفضّل. أنتقل من إذاعة "صوت لبنان" الكتائبيّة إلى "إذاعة لبنان الحرّ" القواتيّة، إلى إذاعة "لبنان العربيّ" التابعة لـ"المرابطون" و"صوت الشعب" الشّيوعيّة.
وكنت دومًا أمر بإذاعة لبنان التي انحازت إلى فريق ضدّ فريق، وباتت مترهّلة مقارنة بمنافساتها.
البرنامج هو الذي يجذبني لا انتماء الإذاعة السياسيّ.
لكنّي لا أنكرُ ميلي إلى "صوت لبنان". ماغي فرح وراء انجذابي إلى هذه الإذاعة. وملاحق الأخبار لدى احتدام القصف في بيروت وضواحيها. كان بالنا مشغولًا على جورج. مكان إقامته مجهول. هذا كان يزيد من قلقنا عندما تذكر الإذاعة أسماء المناطق التي تدكّها القذائف وتدور فيها الاشتباكات.
كنّا نصلّي أنْ لا يكون في إحداها. وترتجف قلوبنا لدى تعداد أسماء الضحايا خلال القصف أو بعده بقليل أو في اليوم التالي.
نصغي إلى المذيع في مشهد يذكّرنا بمشهد إصغائنا إلى إذاعة نتائج أحد الامتحانات الرسمية مترقّبين ورود اسم جورج أو اسم تريز.
بلى، شيءٌ ما تغيّر في علاقتي بالراديو. أصبحت أتابع السياسة ونشرات الأخبار. سيأتي وقت تغيب فيه السياسة عن اهتماماتي الإذاعيّة. ولا تعود إلّا لدى وقوع حوادث مهمّة مثل الاجتياح الإسرائيليّ للبنان وبلوغ الشّيخ بشير الجميّل رئاسة الجمهوريّة ثمّ اغتياله وارتكاب مجزرتَي صبرا وشاتيلا.
تغيّرت كذلك أشكالنا كلّنا. أطلبُ من تريز أنْ تصفني. تقول إنّ وجهي جميل جدًّا. خالٍ من العيوب. وهو أجمل من وجهها ومن وجهَيْ وداد وأُمّي. تحصر الوصف بالوجه. لا أطلب إليها أنْ تكمل منعًا لإحراجها. تعرفُ أنّي أعرفُ أنّ قامتي قصيرة، قصيرة أكثر من اللزوم قياسًا على عمري. وهذا يزعجني. يكاد يتحوّل عقدة بل تحوّل. لن أكذب على نفسي. ليتني كنت أكثر طولًا. أو ليت طولي عادي. طالما أحببتُ وصف وداد لوجهي. كأنّي أقف قبالة مرآة. تذكرُ التفاصيل. وصفُها أيضًا لا يتجاوز الوجه والعنق. وإذا حصل التجاوز فلا يتخطّى الصدر. كان صدري محلّ إطرائهما. عدّتاه أجمل من صدريْهما لأنّه أكبر حجمًا. لا أدري لماذا استندتا إلى هذا المعيار في تقويم جمال الصدور.
عندما أرادتا التدرّب على وضع مساحيق التجميل من ماسكارا وأحمر شفاه وماكياج، كان وجهي مختبر تجاربهما. أقنعتاني بأنّه صالح لاختبار كهذا مع أنّه ليس في حاجة إلى مثل هذه الأدوات ليصبح جميلًا، على قولهما.
تجلسانني على كرسيّ قبالة درفة من خزانة الثياب تتضمّن مرآة كبيرة. على طاولة صغيرة، تضعان بعض أدوات التزيين، وأمسكُ أنا بعضها. أشعرُ بمرور الفرشاة الناعمة على أنحاء وجهي. أشعرُ بأناملهنّ تزيل الزائد أو تبسط الكريمات. كانتا تتشاوران بشأن الألوان التي تناسب بشرتي، وتخلطان لونين وتجرّبان مزيجهما في المختبر الذي هو وجهي.
كلّما أنجزتا مرحلة وصفتا لي النتيجة. عندما تنتهيان من المراحل كلّها تطلبان إليّ أنْ لا ألمس وجهي حرصًا على سلامة عملهما. تصمتان. تغلق إحداهما درفة الخزانة كي تتسنّى لهما رؤيتي من نحو متر ونصف المتر، ثمّ تستفيضان في وصف ما فعلتاه.
أتخيّل كيف أصبح وجهي من خلال وصفهما. ومن خلال لمسي إيّاه قُبيل إزالة المساحيق. وجهي الذي أتخيّله ليس وجه الشابّة التي صرتُها اليوم. بل وجه المراهقة الصغيرة التي كنتُها قبل غروب البصر من عينيّ.
طالما استرجعتُ الصور العائليّة متذكّرةً وجهي وشكلي منذ كنتُ في الثالثة من العمر حتّى الثانية عشرة.
في تلك الأيّام، أيّام طفولتنا، لم يكن دارجًا التقاط الصور إلّا في مناسبات قليلة. أذكر صورة جمعتنا كلّنا، نحن الأولاد وأبي وأُمّي، بعد زياح أحد الشّعانين. كنّا في ثيابنا الجديدة، وفي يد كلٍّ منّا شمعة. في هذه الصّورة تحديدًا يظهر أبي ببزّة عسكريّة. لولا هذه الصّورة لما رأيتُه بثياب الجيش، لأنّه لم يكن مرغمًا على ارتدائها دومًا.
هنالك أيضًا صور لي من احتفال مناولتي القربانة الأولى. وصور من مناسبة مدرسيّة. صوري وصور الأسرة وصور الأهالي تحمل على أقفيتها توقيع "استديو ميشال قرقفي" الوحيد في القرية.
مثلما كنتُ أطلبُ من تريز ووداد أنْ تصفاني، كذلك طلبتُ أنْ تصف كلُّ منهما نفسها، أو أنْ تصف إحداهما الأخرى.
بعد الوصف، أعقد مقارنة بين صورتَيْهما المقيمتيْن في ذاكرتي قبل فقداني النظر والصورتيْن الموصوفتيْن بعده.
يا إلهي كم تغيّرتا. ومثلهما تغيّر جورج وإيلي، بحسب وصف أختَيَّ لهما، خصوصًا الأوّل الذي أتذكرّه بشعره الطّويل إلى آخر رقبته، وبلحيته التي أرخاها لتعذّر حلقها بسبب انتشار حَبّ الشباب في وجهه.
وأتذكّر إيلي بشعره الأسود اللمّاع وعينيه السوداويْن الكبيرتيْن. الآن هو مراهق، جسمه رياضيّ ذو تقاطيع كتقاطيع أجسام رافعي الأثقال. وفي لعبة الكباش لا أحد من مجايليه، حتّى الأكبر سنًّا، استطاع ليّ زنده.
أُمّي وأبي لم يتغيّرا كثيرًا. تقول تريز. أُمّي تبدو أكبر من عمرها. وأبي يبدو أصغر من عمره.
هل يأتي اليوم الذي استردّ فيه نظري وأراهم جميعًا، وخصوصًا أرى نفسي؟
 
increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها