الأربعاء 2023/05/24

آخر تحديث: 12:56 (بيروت)

"هردبشت"... واقعي، ناجح، مزعج

الأربعاء 2023/05/24
"هردبشت"... واقعي، ناجح، مزعج
اللغة السائدة هي لغة العنف والقتل... أليس هذا واقعًا؟
increase حجم الخط decrease
فيلم "هردبشت" واقعي بشراسة. ومَن يعتمد المدرسة الواقعيّة، إمّا أن يُنتج مادّة توثيقيّة تعرض المشكلة، من دون الإفصاح عن الموقف من هذا الواقع المرير. أمّا الخيار الثاني، فيتّخذه مَنْ كوَّنَ موقفًا من الواقع، وبمعزل عن الصواب والخطأ في الموقف. فالمشاهد هو الذي يُقرّر، هل تلقّى بشكل عقلاني؟ أم عاطفي؟ و"الشكل العاطفي" يضع غشاوة من صناعة القلب، تجعل المرء مُتعلّقًا بالماضي الذي ربطه بأيديولوجيا غالبًا لم يختَرها!  

وكي أُبدي رأيي بهذا الواقعية المريرة، لا بدّ من ذكر زيارتي للمنطقة التي صُوّرَ فيها الفيلم (الأوزاعي)، فقد تعرّفت في بداية التسعينيّات على صديق من منطقة "الجناح"، وهي توأم "الأوزاعي" من ناحية المستوى المعيشي والفوضى والفساد واللاأخلاق! وقد أخبرني الكثير عن علاقة المنطقتين القائمة على تبادل الخدمات التي تصبّ في خانة "المزاج". ومن المعروف أن من يسلك طريق "المزاج"، أنّما هو ليهرب من الواقع المرير الذي يعيشه.

لا أدّعي الخبرة في النقد السينمائي، لكن خبرتي تكمن أوّلاً في حُسن تذوّق الصورة (دراستي الرسم والتصوير). هناك بعض اللقطات رائعة في الفيلم فنّيًا، "كادرات" سينمائيّة جَمّلت الصورةَ لمنطقة موبوءة بكل المعايير (اجتماعيًا/ سياسيًا/ بيئيًّا/ أخلاقيًّا). من الصعب على أي شخص منغمس في تفاصيل الحياة اليومية لمنطقة ما، أن يتقبّل فيلمًا يسلّط الأضواء على الزوايا المظلمة فيها. فالفيلم صرخة بوجه منظومة الفساد. والفساد الذي يترك الدفّة لمركب البلد، فتديره كل جهة نافذة في منطقة سيطرتها، بحسب مصالحها الخاصّة.

المعلّم "طلال" الزعيم الوهمي الذي يمكننا -طبعًا- أن نشبّهه بأي زعيم سياسي، تحوّل أتباعه في الفيلم إلى مجرّد خرضوات وقطع كسر سيارات تطمر جثّة قُتلت بعد مشكلة عاطفية يعنوِنها المجتمع كخيانة زوجية، تخفي مشاعر امرأة مُعنّفة ومُضطّهدة من قبل زوجها الذي من المحتمل أن يكون تزوّجها بشكل تقليدي!

البقاء للأقوى، "حسين" يفرض سطوته على أخيه "أبوالفضل"، فهو الزعيم الذي يُسهّل توزيع المخدّرات ويرفع صوته على الجميع، بما فيهم المعلّم طلال، والذي على ما أعتقد هو من أطلق النار على أبو الفضل وقتله!

في كلّ الأحوال، فإن اللغة السائدة هي لغة العنف والقتل. أليس هذا واقعًا؟ أم أنّ الأوزاعي هي مقاطعة دنماركية؟ لقد تجرأتُ وذهبت لحضور الفيلم، على الرغم من إحباطي من الواقع اللبناني، فالتغيير الذي أؤمن به، بذلت جهدًا للوصول إليه، من خلال خوضي في حملات كثيرة ضدّ الطائفية والنظام الطائفي والإعدام.. لست حالمًا، وحتّى لو كنت ذلك، فأنا أقرأ الواقع ولا أغمض عينيّ عن السواد القاتم الذي يلفّنا.

أرى ثغرة وحيدة، أعتقد أنّ المُخرج محمّد الدايخ قد أوردها في السيناريو لتخدم السياق الدرامي:... أن الفتاة المُنقّبة جارتهم، والتي أُعجبت بأخلاق "حمّودي" (محمّد عبدو) المُتديّن المُستغَلّ من أخويه، قد انسجمت تمامًا مع حمّودي، الإنسجام الذي أفضى إلى زواج ظرفي، في إشارة إلى عقد زواج المُتعة، المُخرَج الشرعي للمشاعر المتبادلة العشوائيّة. والثغرة التي أقصدها: أنّه بعد ليلة الزواج، عرضت عليه صورًا لها باللباس العسكري الإسرائيلي! فهل يُعقل أن جاسوسًا يرتكب هذه الهفوة لأسباب عاطفيّة؟

يبدو أن المخرج، أراد أن يعطي زخمًا لشخصيّة حمّودي، فقد تُدرك من السياق بأنّه بلّغ "شباب الحزب" ليقتحموا الغرفة ويلقوا القبض عليها.

الواقعيّة مُزعجة، ولا يمكن لأحد أنّ يصمّ أذنيه عمّا يحدث في الخارج. وقد تزعجك الواقعية ولو لبست لباس الكوميديا السوداء بعض الأحيان، فمفهوم المواطنة لا بدّ أن يتّسم بالواقعيّة. وإلّا وقعنا في ما يُسمّى "التملّق"! الواقع تجّسّد في الشخصيات، فلا أرى شخصيّة خياليّة في الفيلم. والأحداث من الواقع المُعاش. قد يتماهى كثيرون بخيال، أنتجته مُخيّلتهم، لمحاول صنع ذاكرة مُتوقَّعة. وهذا حقّ كل فرد، لكنّ منهجيّة التفكير النقدي، لا تلائمها ذاكرة صنعتها صور جميلة بقيت من زمن جميل. يبادرك الجيل القديم: الله يرحم عهد فؤاد شهاب! ولم يكن فؤاد شهاب سوى جنرال..

عسكرة الحياة اختصرها محمّد الدايخ، باليد التي أبرزت اللقطة طرفها لتختصر الدولة في "بدلة الدرك"، والذي لم ينتبه للقتل والمخدّرات والفوضى.. فقد كان يُحقّق مع "حسين": أنت قوّصت عا باب المستشفى وهدّدت الممرّضات..! وجواب السؤال ينعكس في ضحك هستيري ساخر من هيبة الدولة الغائبة. لم أفهم كيف رأى كاتب إحدى المقالات عن الفيلم، بأنه، على الرغم من واقعيّة الأزمات، لا يمكننا أن نرفع شأن هذه القضايا.. فالفيلم برأي الكاتب لا يصلح أن يكون سوى استكشات صغيرة..

أنا لبناني، وقد شطبت المذهب من سجلّ نفوسي، وهو موقفي الطبيعي من النظام الطائفي، ولا أجد تبريرًا آخر أزعجَ مَن اعتبر الفيلم سخيفًا، سوى أن السواد الأعظم الذي أظهره الفيلم هو في منطقة تحتضن النزوح الشيعي من بداية السيتّينيات - وكان نزوحًا افتصاديًّا-  قبل النزوح الذي خلفته الحرب الأهليّة العام 1975.

الفيلم جريء، يفضح قضيّة السلاح المُتفلّت، وغياب الدولة في القضايا المصيريّة. والأخطر هو ارتكابها (أي الدولة) محاولة قتل "حمّودي" في حادثٍ أفقده ذاكرته، في ترميزٍ إلى أن الشخصية المُتّزنة غالبًا ما تفقد الذاكرة لترتاح. والدركي (أو الدولة) يفبرك السيناريو الذي يُظهره بريئًا..فيقتل زميله الدركي!

فيلم ناجح برأيي، رغم قسوته، ولعلّ اللقطة الذي تُظهر ديكًا بجانب "حمّودي" متمدّدًا على الشاطئ، هي ضربًا من التفاؤل: لعلّ الديك يصيح ليشرق صباح حياة جميلة.

مع العلم أن واقعيّة المخرج إتّسمت بعبثية رسمها حسين بضحكة هازئة من سؤال الدركي اتهمّه بإطلاق الرصاص عند مدخل الطوارئ. فدولة غائبة تستدرّ الشفقة من "السلاح" في غياب مُتعمّد يقول باستهزاء: كلّ ديك على "فُتات" (الجزء المُتبقّي من الهوية) صيّاح!!

وهذا حقيقة مرّة، التي نُغمضُ الأعين عنها عمدًا، فما يهمّنا ويشغل بالنا:
- المخرج شيعي؟
- أي بيت الدايخ بعرفهم من جويّا!!
increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها

الكاتب

مقالات أخرى للكاتب