الثلاثاء 2023/05/23

آخر تحديث: 18:57 (بيروت)

حين توقفنا عن اللعب..

الثلاثاء 2023/05/23
حين توقفنا عن اللعب..
"آلهة الأولمب" لوحة غيوليو رومانو
increase حجم الخط decrease
اللعب، سمة هذا العصر. وربما أكثر ما يفتقده هذا العصر هو اللعب.
يكفي التفكير في ألعاب الفيديو المتوافرة اليوم، لكل فئة عمرية وجنس وموهبة. هواتفنا النقالة المدججة بصنوف اللعب المباشر وغير المباشر، حتى ثمالة الأجهزة ومستخدميها ومَن حولهم. الشاشات التي أمامها نعمل ونجتهد وتسرقنا ساعات متعبة طويلة، نقوم من أمامها ربما لنتمطى قليلاً أو نعدّ شراباً، ثم نعود للجلوس أمامها كي نرتاح ونتسلى لساعات موازية. أحياناً، نأخذ فواصل استراحاتنا في الوضعية نفسها، وضعية العمل، ظانّين إننا تركناه. الانترنت وبُحوره المُغرقة في كل شيء ولا شيء. منصات الأفلام والموسيقى والكتب الالكترونية التفاعلية. الاستهلاك لعبة زمننا. والإبداع لعبة الأزمان كلها، أحلام اليقظة التي تصبح أغاني وروايات، أفلاماً ومسرحيات... ونميمة.. النميمة أيضاً خيال مبتكر، ثمة مَن يُجيده وثمة مَن يفشل فيه فشلاً ذريعاً.

ولعلها هنا المشكلة، المسألة، العُقدة. صار اللعب هو المتن. أقل فأقل، هو المولج برسم هوامش الاسترخاء والترفيه والاستسلام لطفولة كامنة أبداً، يفترض ألا يُفنيها الرّشد. اللعب يُسرق منا، أو أننا نضيّعه بإرادتنا... طمعاً في المزيد منه، وحظوة بالأقل -أياً كان نوعه- المختلِط المتداخِل مع واجبات الحياة. هل يجعل ذلك الواجبات أكثر مرحاً؟ أم المرح واجباً نتعهد بالالتزام بصيغ معينة منه كمَن يوقّع شيكاً على بياض؟

هكذا كان اللعب في البدء. أولاً، لعب الآلهة في ما بينهم، حروبهم اللاهية، بعنف ومصائر حتمية إلى الحتف والتيه والندم المديد. ثم صار لعب أهل أثينا، من أجل الآلهة ليأنسوا، ومع الآلهة، وأحياناً بهم وبهمّة مقدراتهم الاستثنائية. اللعب في الأساس لم يكن لعبة، بل كل الجدّ الممكن في عظَمة وأقدار، عبادة وتمرد، امبراطورية وحُكم وحِكمة، سياسة واستقواء، أجساد واجتماع وفلسفة... لا خبز فيها يدوم للهواة والضعفاء ومحدودي الإنجازات. 

ثم تراخت الأثقال عن كاهل اللعب واللاعبين.. فقط لتعود وتتراكم، ونعود للبحث عن بهجة اللعب، مثل بحثنا عن السعادة، أي عن الإبرة في كومة الكون، ليجد فريدريك نيتشه نفسه مضطراً أن يكتب على لسان زرادشت: إن هدف الحياة هو أن تصبح طفلاً مرحاً، لأنه، ومن خلال اللعب، "مَن يضيع في العالم.. يغزو عالمه الخاص".

حتى الفلاسفة تطلعوا ويتطلعون إلى اللهو. رمية حظ على دريئة حُبور، ولو ذهنياً، وبقدر ما لمثل هذا الاستقطاع أن يُتاح بواسطة الأفكار. قد يستريحون من نظريات المعرفة والميتافيزيقا ومعنى الحياة، فتغادر العقول العظيمة أراضيها الأليفة، ليكتب مارتن هايدغر عن المباني وكيف تُسكَن، وتوماس هوبز عن الطعام والشهية والرغبة، وروبرت نوزيك عن عصير البندورة، وأرسطو عن الطقس...

"كل فتى ابن 12 عاماً في القرية، يعرف كيف يستخدم رافعة، أفضل من أذكى ميكانيكي في الأكاديمية"، قال جان جاك روسو، "الدروس التي تتعلمها في الملعب تساوي مئة ضعف ما تتعلمه في المدرسة". والمدرسة/school اشتُقّت من الكلمة اليونانية القديمة للترفيه skholē. واللعب اليوناني Paidia، صار البيداغوجيا أو المنظومة التربوية-التعليمية.

وفيما لا ينقطع لعب الأولاد في مدارسهم وملاعبهم والمنازل، وحتى حول الخيم وبيوت التنك وفي الملاجئ، لأنه جوهرهم وكينونتهم في كل ظرف، ينسى كثر منا، كباراً، طعم اللعب وأصوله ومتعته، وذلك فيما نحن نلعب فعلاً! – أو يخيّل لنا أننا نلعب... في الغرام والسياسة، الزواج والفردانية، الأخوّة، الصداقة، والغواية. في الطبخ والمهنة وكل تأليف، وكل الفنون (فالفن بلا لعب يُرجَّح أن يخرج رديئاً). في الأبوة/الأمومة، الدين والإيديولوجيا بعد انقضائهما غير المأسوف عليه.

يأخذنا الجدّ البائس، البليد، المملّ، إلى صراعاته التي لا تشبه صراعات آبائنا وأمهاتنا الآلهة في شيء من حنكاتها وتبادلياتها الحكائية، حدّ أسطرة اللعب واللعوبين واللعوبات، حدّ الحرب الممتعة بلا دماء ولا أموات ولا جروح.. إلا ما يندمل بالسحر والقوى الخارقة التي ليست خيالات، إذ تنوجد في العَيش وكل الوارد أعلاه. 
 
increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها