الثلاثاء 2023/05/23

آخر تحديث: 12:49 (بيروت)

جوناثان غلايزر: الهولوكست بمنظور فريد...يبهر جمهور "كانّ"

الثلاثاء 2023/05/23
جوناثان غلايزر: الهولوكست بمنظور فريد...يبهر جمهور "كانّ"
الفيلم مرشح قوي لنيل السعفة الذهبية
increase حجم الخط decrease
"منطقة الاهتمام" The Zone of Interest، الفيلم الرابع للبريطاني جوناثان غلايزر، الذي ينافس في المسابقة الرسمية لمهرجان "كانّ". غوصٌ سوداوي ومبدع في الحياة اليومية لقائد معكسر أوشفيتس وعائلته. عبر رهانٍ لافت بتحويل نظره عن المعالجات المعتادة في تناول الهولوكوست، يترك غلايزر الموت والرعب خارج الشاشة ليقدّم منظوراً أشدّ رعباً وأكثر كآبة من أي هولوكست سينمائية ظهرت من قبل.

يدشّن الفيلم عودة منتظره للبريطاني المُقلّ في أعماله، بعد عشر سنوات على فيلمه الأخير. السيناريو كتبه بنفسه استناداً إلى رواية بالعنوان ذاته من العام 2014 لمواطنه مارتن آميس، تدور أحداثها في بولندا بداية الأربعينيات، وتحديداً في معسكر أوشفيتس، وتحكي قصة ضابط نازي يُغرم بزوجة قائد المعسكر. في اقتباسه الحُرّ والغامِر لرواية الكاتب الراحل مؤخراً، يُدخل غلايزر بعض التعديلات من دون أن ينحو بعيداً من أصلها ومرادها. هذا تقرير سينمائي حول تفاهة الشرّ، وإعادة بناء/تخييل لتاريخ الزعيم النازي رودولف هوس الذي صمّم وأدار معسكر أوشفيتس للاعتقال والإبادة بلا انقطاع بين العامين 1940 و1945. فيلم مثالي للنقاشات العاطفية، وأحد الأفلام التي حظيت بشعبية كبيرة في مدينة "كانّ"، لدرجة مناداة البعض بمنحه السعفة الذهبية.

الدقائق الأولى من "منطقة الاهتمام" غريبة - شاشة سوداء وضوضاء تصل تدريجياً إلى التشبّع – وكافية لتلخيص نهج ومشروع جوناثان غلايزر. الصوت أهمّ من الصورة هنا، وما يتجاوز الإطار أهمّ مما نراه. فقط إذا استمع المتفرّج بعناية سيتمكّن من التقاط صوت رصاص وبكاء في ما وراء زقزقة الحياة اليومية لأسرة ألمانية كبيرة وسعيدة. فقط عبر تحويل الأنظار من الحديقة الرائعة لهذه الفيللا، وأزهارها المبهرة وحديقتها المعتنى بها؛ يمكن لعين المرء أن تقبض على الجدران الخرسانية المحيطة، ودخان المداخن وبخار القطارات وطاولات الكيّ. تعيش أسرة هوس في أوشفيتس، على مرمى حجرٍ من موتٍ مجاني ينسّق إيقاعاته ربّ الأسرة بكفاءة تلقى ترحيباً من القيادات العليا النازية، وتتقبّلها زوجته بلا مشكلة.

في ثلاثة أفلام سابقة ("وحش مثير"، "ميلاد"، "تحت الجلد")، أثبت جوناثان غلايزر نفسه كسينمائي تناقضات وقلاقل، قادر على أفلمة قصص العصابات كما الحبّ، وسحبها إلى أراضٍ غير مستكشفة. يطبّق جديده المبدأنفسه على الهولوكوست بمنظورٍ فريد وجرأة لافتة. لا تظهر المحرقة في أي مشهد، لكنها حاضرة طوال مدة الفيلم. تُنثر تربة الحديقة الجميلة برماد الجثث المحترقة، ونسقط حرفياً على عظمٍ أثناء رحلة صيد، وتختار السيدة هوس معطف فرو أنيق من بين حقائب السجناء المصادرة فور نزولهم من قطار الترحيلات. يذهب غلايزر إلى نهاية افتتانه بالغرابة، هذه الغرابة المزعجة، فيحيل مسكن أسرة هوس إلى ما يشبه فقاعة منحرفة وفاسدة (كما لو إنها تحيا داخل فيلم لجاك تاتي)، ويضع إسقاطات مضحكة في أفواه أبطاله (أداء ممتاز من كريستيان فريدل وساندرا هولر، في دور رودلف وهيدويج هوس).

يتفاقم الرعب، ويكتمل لدرجة أنه يصل إلى أحشاء رودولف هوس، من دون الحدّ من قدرته المرعبة على وضع مبادئ التنظيم الصناعي في خدمة تدمير شعب بأكمله. يحيل عنوان الفيلم إلى العام 1940 ومساحة الـ40 كلم مربع التي استلزمها بناء معسكر أوشفيتس. سيبقى موضوع الفيلم، موضوعه الحقيقي، خارج الشاشة حتى يفسّر جوناثان غلايزر هدفه في الدقائق الأخيرة بتحوّل جذري في ما تعرضه الشاشة ليعود إلى عالمنا اليوم وموقع المحرقة بعدما صار متحفاً: بالنسبة إليه، على عكس العديد من الآخرين قبله، لا يمكن أن يبقى معسكر الاعتقال أسير الخيال.

في البداية والنهاية، ستحضر الشاشة السوداء الكاملة والموسيقى الإلكترونية السيمفونية لميكا ليفي في الخلفية. سيكون هناك أيضاً فيلم وثائقي، لكن جوهر القصة سيبقى الحياة اليومية لعائلة رودولف هوس، الرجل الذي يجسّد هنا تفاهة الشرّ، لكن مع أبعاد جديدة. يُهنّأ رودولف من قبل زملائه وزوجته وأطفالهما الخمسة بعيد ميلاده، ويقرأ قصصاً لأطفاله في الليل (هناك بعض التشابه الغريب مع حكايات الأطفال للأخوين جريم)، لكن القائد يتلّقى أيضاً زيارة من المهندسين النازيين في منزله لمساعدته في تنفيذ نظام عمل مستمر على مدار 24 ساعة حتى تكون خطة الإبادة سريعة وفعّالة قدر الإمكان.

بكاميرا دائماً على مسافة معتبرة، ونبرة سردية باردة تتجنّب أي نوع من التعاطف أو استسهال إظهار الأبطال باعتبارهم مجرد وحوش حقيرة؛ يكشف "منطقة الاهتمام" كيف أن الزوجة (تدير جيشها الخاص من الخدم بكفاءة زوجها نفسها) تتعايش مع رعبٍ لا يبعد عنها سوى أمتار قليلة. عندما يُحضرون إليها من أوشفيتش كل شيء، بدءاً من معطف الفرو الذي حاولت ارتداءه إلى الملابس الداخلية التي توزّعها على عمّال المنزل (لا حاجة لشرح من أين أتت هذه الأشياء)؛ تتضح وتتجلّى ظلال الرعب المتعددة بطريقة مفجعة من دون الاضطرار إلى اللجوء إلى القسوة أو السادية.

بعيداً من ملحمية وسنتمنتالية "لائحة شندلر" (1983، ستيفن سبيلبرغ) بقدر ابتعاده من صراحة وذاتية "ابن شاؤول" (2016، لازلو نيميش)، يقترح "منطقة الاهتمام" نهجاً مختلفاً تماماً لمقاربة المحرقة: اللقطات القليلة التي ينبعث فيها الدخان من غرف الغاز وأفران حرق الجثث، المرئية من بُعد، في تكوينات هندسية بحتة؛ تكتسب قوة درامية مدمّرة. في السينما، كما نعلم، يغدو القليل، أحياناً، أكثر وأشدّ تأثيراً.
increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها