الثلاثاء 2023/05/23

آخر تحديث: 13:03 (بيروت)

"تقدمة الربيع" لجهاد أبو سليمان...روحانية الشرق المتحررة من الأديان

الثلاثاء 2023/05/23
increase حجم الخط decrease
يعرض جهاد أبو سليمان في غاليري "Art Scene" مجموعة من الأعمال يناهز عددها الـ22، وذلك تحت عنوان "تقدمة الربيع"، وهذه الأعمال كانت نُفذت بتقنيات متنوعة بين أكريليك على قماش، وباستيل على ورق، ومواد مختلفة على ورق ياباني، وجاءت لوحاته بمقاسات بعضها كبير وبعضها متوسط الحجم، وذلك بما يتناسب مع التقنية المستعملة، وما تسمح به المساحة التشكيلية.

قبل اطلاعنا على المعرض الحالي، كنا نلاحظ أعمال جهاد أبو سليمان في وسائل التواصل الإجتماعي، وقد جذبت انتباهنا منذ اللحظة الأولى. الرسم المختصر، طريقة التعامل مع اللون، الإنطباع الشعوري الذي تخلّفه الأعمال، هذه الأمور كلّها لا تغيب عن ملاحظة العين العارفة. كما ليس من الصعب على العارفين بأنواع الفنون الشرقية، ملاحظة ارتباط الأعمال المعروضة بما أنتجته هذه الفنون على مر الزمن، وعملت على تطويره خطوطاً وهندسة وألواناً. وإذ كنّا تعمّدنا ذِكر عبارة "العارفين"، فلأن هذه المعرفة من المفروض أن تتعدّى النظرة السطحية الشكلانية، المنعكسة في أعمال لدى بعض الرسامين من غير المحترفين، والمؤدية إلى إنتاج أعمال سطحية بدورها، تستهلك بعض الصور والمداخل غير البعيدة عن الكيتش الشكلاني.


(تقدمة الربيع)

وكما يبدو، وفي ما يخص الفنون المذكورة، فإن الكثير من الزخارف التي وجدت لها مكاناً على السجاد القديم كان أسيء تفسيرها، إما بسبب تحويرات كثيرة لحقتها، أو لسبب ديني وتقني. فرغم أن الزخرفة كان هدفها الأساس هو إظهار الجمال والبهاء في القطع المنتجة، إلا إنها أصبحت في ما بعد حاملة أفكار رمزية، إما بسبب الخشية من غضب الآلهة، أو اتقاء لأفعال المخلوقات الشريرة، وأكثر من ذلك بسبب المنع الذي فرضه الإسلام على تصوير المخلوقات، ما أدّى إلى تغيرات كثيرة، وأصبحت أشكالها وألوانها مليئة بالإيحاءات ومشحونة بالدلالات الثقافية.

بيد أن الخشية لم تعد واردة في الفنون المعاصرة التي استلهمت روح الزخرفة الشرقية، وعملت على تجييرها في إتجاه يجمع ما بين الرمز والإنطباع الشعوري والروحانية. هذه النظرة، او المفهوم، يمكن رصده في أعمال جهاد أبو سليمان، ذات الوجه الفني المعاصر، التي لا تلجأ فقط إلى الرمز، بل كذلك إلى اللون الإصطلاحي أيضاً، اللذين يعكسان طرق التعبير غير المباشر للدلالة عن الشيء المراد تبيانه. وهنا تجدر الإشارة، عموماً، إلى إن الفكرة هي السبب في وجود الرمز، فالرمز في حد ذاته ليس له مدلول مباشر، في حال عدم وجود "معاهدة" شعبية  وإتفاقات شائعة، ونمط تفكير محدد يشير إلى مدلولات هذه المسألة أو تلك.


(بوابة السماء)

لقد أراد أبو سليمان التوفيق بين هذه الأمور، على النحو الذي يجعلها في متناول المشاهد، من دون الذهاب بعيداً في التعقيد، معتمداً في ذلك نهجًا قائمًا على السلسلة في لوحاته، ما يسمح له باستكشاف المفهوم قدر المستطاع، وإنشاء مجموعة تعمل على رؤيته الفنية، وتؤدي إلى إنتاج لوحة بصرية ذات بُعد جمالي خاص في الوقت نفسه. وهو، في هذا المجال، يستخدم الألوان التعبيرية متعدّدة الطبقات من أجل خلق بنية شعورية تخاطب حواس المتلقي، وتثير انفعالاته على نحو بعيد من الصدمة، التي تقصّد إحداثها بعض إتجاهات الفن المعاصر، في معالجته لموضوعات متنوعة. وإذا كان الفنان استلهم، في سعيه هذا، العديد من منطلقات الفن الإسلامي، فقد أدرك أن هذا الفن لجأ إلى استخدام صيغ هندسية تجريدية، والتزم مبادىء اصطلاحية تنظم العلاقة القائمة بين الأشياء، وتعيد صياغتها داخل المساحة التشكيلية. لقد انطلق أبو سليمان من مفاهيم جمالية ليس هدفها تمثيل العالم الموضوعي أو محاكاته، بل التعبير عنه بأشكال تعتمد التجريد في الشكل العام للوحة، لكنها لا تخلو من عناصر تمثيلية تحضر، حسب الحاجة، في بعض الأعمال، وإن كانت لا تُطابق حرفياً أساسها الواقعي: قامات إنسانية أو حيوانية، أشجار، نباتات، وأشكال هندسية بطبيعة الحال.

هذه الأمور كان تحدث عنها الفنان بول كلي، الذي لا نذكره هنا مصادفة، بل لأننا نرى علاقة معينة تجمع بين أسلوب أبو سليمان، وبين ما أنتجه الفنان الألماني، الذي زار تونس العام 1914، وتركت هذه الزيارة أثراً واضحاً في أعماله في ما يخص اللون. وإضافة إلى أعماله الفنية الشهيرة، كانت لبول كلي إسهامات نظرية عديدة. ففي كتاباته حول "الفكرة الخلاّقة" (1974)، يقول ما معناه: إن المساحة المزخرفة تُبنى بواسطة أشكال هندسية خطية وهي لا تمثل شيئاً سوى حركة الخط في الفضاء.. إن الحركة تبدل طبيعة النقطة والخط والمساحة، وتجعل منها عناصر أساسية في بناء الفضاء التشكيلي، وتنقلها – بفضل تداخلها وتراكمها – من حالتها الأولية الساكنة إلى حالة أكثر دينامية.

فالرسم، بالنسبة إلى كلِي، يعني نشر أشكال نقية على لوحة قماشية وإقامة العلاقات التي توحدها. وخصوصية اللوحة تتمثل في الوسائل التي تستخدمها. والخط والـchiaroscuro (الدرجة اللونية) واللون، هي الوسائل التي تحدد طبيعة الرسم. من خلال توليف العناصر المذكورة وإدماجها، يتحرر التعبير ويتثبت على سطح اللوحة.. خيال الرسام، المرتبط ارتباطًا وثيقًا بالوسائل البلاستيكية المناسبة، هو الذي يجعل إنشاء العمل ممكناً.

هذا النقاء اللوني، الذي تحدث عنه بول كلي، حاضر في لوحة جهاد أبو سليمان. جاءت هذه اللوحة كمرآة ومساحة تشكيلية غنية في مضمونها، بعدما أدّت إلى صوغها عوامل عديدة، ليس آخرها ما كانت تركته لديه من أثر ذكريات أمكنة الطفولة والصبا في بلدته مجدلونا، وهي التي امتزجت بما رأته عيناه من مشهد أوروبي، ليخرج من هذا المزيج نتاج يحمل روحانية الشرق وألوانه من جهة، وما عملت على بلورته ثقافة  أوروبية، متعددة الإتجاهات، من جهة أخرى.

جهاد أبو سليمان
من مواليد بيروت 1953. نال شهادته في الفلسفة والفنون الجميلة من الجامعة اللبنانية العام 1976. تابع دراسته في باريس وتخرج في المدرسة الوطنية العليا للفنون الجميلة العام 1983، في حين كان يدرس أيضًا تاريخ الفن في جامعة السوربون (بامتياز). انتقل أبو سليمان بعد ذلك إلى أمستردام، حيث أكمل تعليمه العالي في جامعة أمستردام العام 1985. أقام معارض فردية حول العالم، وبشكل رئيس في بيروت وأمستردام ولندن وأنتويرب والسويد. إضافة إلى مشاركته في عروض جماعية منذ العام 1988. تشكل أعماله جزءاً من مجموعات عامة وخاصة في الولايات المتحدة وأوروبا والشرق الأوسط.

(*) يستمر المعرض حتى 28 أيار/مايو في غاليري " Art Scene" – شارع غورو، الجميزة، بيروت.

increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها