الإثنين 2023/05/22

آخر تحديث: 13:40 (بيروت)

الذكاء الاصطناعي يحيي صوت "الستّ"، ولكن...

الإثنين 2023/05/22
الذكاء الاصطناعي يحيي صوت "الستّ"، ولكن...
من يملك الصوت؟
increase حجم الخط decrease
ما بين مهللٍ مفتونٍ بمقدرة الذكاء الاصطناعيّ على عتق ماضينا من جموده، وممانعٍ يستميت لإبقاء إرثنا الإبداعيّ بمعزلٍ عن التشويه، كان ما كان، وغنّت أم كلثوم "أفتكرلك ايه" من ألحان لعمرو مصطفى بعد عقودٍ من رحيلها، حاصدةً آلاف المشاهدات والإعجابات على السوشال ميديا.

هذه "المبادرة"، وهي الأولى من نوعها في عالمنا العربي، استحدثها الملحن المصريّ بغية إحياء التراث، مع أنّها بترجمتها الحاليّة وبعدها الموسيقيّ الفنيّ، لا تعدو كونها توق مؤلفٍ أبدع مع نجوم زمانه، من أجل التلذّذ بصوت كوكب الشرق وهو يصدح بما ألّف من نغم.

عمرو مصطفى، المتطرّف دائماً بعاطفته وأعماله وآرائه، رفض تكبيل الزمان، ولم يتلعثم ولو نغمياًّ وهو "يحجز" لنفسه مقعداً بجانب السنباطي وعبد الوهاب وبليغ والموجي، ولم يتريّث حتّى، قبيل أن يعيد صوتاً صنع التراث أكثر ممّا كان جزءاً منه، ومن دون استئذانه، إلى حاضرٍ هستيريٍّ لا يماثله. وقد أخرج عمله هذا، عدداً من الإشكاليّات الفنيّة المعقدّة من قمقمها، لتكون حديث الجمهور المنشطر إلى قسمين لم يجتمعا على شيءٍ سوى الذهول.

مَن يملك الصوت؟
الملكيّة الفكريّة كانت بطبيعة الحال في مطلع الإشكاليّات، حيث بات الخوض في موضوعها أكثر تعقيداً من أيّ وقتٍ مضى. فالورثة وشركات الإنتاج باتوا يحسنون إلى حدٍ ما التعامل مع الشؤون المرتبطة بإعادة إنتاج الأعمال القديمة وتوزيعها، لكنّنا اليوم أمام صورةٍ مغايرةٍ تماماً، فالصوت البشريّ هو المادة موضوع النزاع وليس المضمون الإبداعيّ نفسه، والحديث عن منع أحدهم من إعادة إنتاج صوت عملاقٍ راحلٍ لم يحظ حتّى الآن بغطاءٍ قانونيٍّ صريحٍ، والمحاججة هنا ستظلّ عقيمةً كون حقوق الكلمة واللحن والتوزيع لم تنتهك، وباعتبار الصوت لا يتعدّى كونه محاكاةً إلكترونيّةً للصوت الأصليّ.

هذه الصورة الضبابيّة المعالم بدت واضحة لدى المنتج محسن جابر، مالك شركة "ستارز" صاحبة الحقوق الحصريّة لكافّة أعمال أم كلثوم، الذي سارع بلا ترددٍ إلى اتخاذ الإجراءات القانونيّة اللازمة، التي ما زلنا نجهل مفاعيلها حتّى الآن، رغم ما يجمعه من علاقةٍ طيبةٍ بعمرو مصطفى ملحن العمل ومنتجه. فجابر كما والعديد من النقاد الفنيّين والملحنين والموزعين اعتبروا أنّ "افتكرلك ايه" تعدّت الخطوط الحُمر، خصوصاً أنّ عمرو مصطفى لم يعر اهتماماً للقداسة الفنيّة التي تحيط بشخصيّةٍ ذات شأٍن رفيعٍ كأم كلثوم.

الخصوصيّة الفنيّة في مهب الريح
بعيداً من الاعتبارات القانونيّة، يبدو للوهلة الأولى استحضار صوت سيدة الغناء العربي فكرةً مثيرةً للدهشة بقدر ما هي مثيرة للرعب، ولعلّ الخطوة الجريئة التي اتخذّها عمرو مصطفى وحمل وزرها، ستظلّ ناقصةً طالما أنّ العمق العاطفيّ لصوتها سيتغيّب عن المشهد، في ظلّ عجز التكنولوجيا حتّى الآن عن التعاطي مع أحاسيسنا المعقدّة نحن البشر، وإنتاجها. فإذا ردّ إلينا الذكاء الاصطناعي صوت "الست" بمساحاته وعِرَبه وخصائصه التقنيّة الفريدة، لن يستطيع أن يردّ حضورها الطاغي، وجمهورها المتلهّف، وتنهيداتها التي تهزّ الأفئدة، وشغفها الذي حفزّته روح عصرٍ كان منديلها علامته الفارقة.



أمّا في ما يتعلّق باللحن والكلمة، فستبقى محاكاة التراكيب النغميّة والانتقالات المقاميّة المعقّدة لعمالقة ملحني العرب، مهمّةً صعبةً إن لم تكن مستحيلةً أمام معظم ملحني عصرنا، الذي شهد تحوّلاً جذريّاً في الذائقة الفنيّة وأساليب الإنتاج والتوزيع والتلقي، وهذا ينطبق على الكلمة أيضاً، لا سيما أن أم كلثوم كانت انتقائيةً في اختيار أغانيها إلى أبعد حدود.

والواضح أنّنا اليوم أمام مفارقةٍ كبرى، تطاول الأبعاد الأخلاقية للعمليّة الإبداعيّة بمجملها، فإعادة إحياء صوتٍ عظيمٍ بحجم صوت أم كلثوم، قد يعدّ ابتكاراً، كما أنّه قد يتخذ من زاويةٍ أخرى، طابعاً كارثياً يترجم بانتهاكٍ جسيمٍ للأصالة الفنيّة، وتشويهٍ متعمدٍ لتراثٍ يجب ألا يمسّ بريقه. فبعض القيم الفنيّة فاتنةٌ لسكونها وملازمتها لروح عصرها. كما أنّ غاية عمرو مصطفى المتمثلة في إعادة إحياء التراث بدت غير منطقيٍّة لخروجها عن إطار إعادة إنتاج الأعمال التراثيّة. وبغض النظر عن تداعيات هذه التجربة وأبعادها، سواء كانت هادمة أم لا، لا بدّ أن نقرّ بكونها إنذاراً صريحاً بمستقبلٍ فنيٍّ كارثيٍّ تنعدم فيه الحدود بين الأصيل والوهمي، وافتتاحيّة تغييرٍ ثوريٍّ سيطاول مفهومنا عن الإبداع والمبدع الذي بات استبداله يسيراً سواء كان مغنياً عالميّاً عصريّاً يسحر ملايين المراهقين، أم عملاقاً يهزّ النغم بيمينه والعالم العربيّ بيساره.
increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها