الأحد 2023/05/21

آخر تحديث: 08:28 (بيروت)

"بنات ألفة" لكوثر بن هنية..ورشة جماعية تونسية للعلاج والتذكّر

الأحد 2023/05/21
increase حجم الخط decrease
بعد 53 عاماً من الغياب، أعاد فيلم "بنات ألفة" تونس إلى المنصّة الكبرى بمهرجان كانّ السينمائي، بمنافسته على جائزة السعفة الذهبية في دورته الـ76.


بعد فيلمين روائيين، "على كفّ عفريت" و"الرجل الذي باع ظهره"، تعود التونسية كوثر بن هنية (1977) بفيلمها الجديد "بنات ألفة" إلى أرض السينما الوثائقية، ذلك النوع الذي عرّف بها العالم حين أنجزت "شلّاط تونس" (2013). فيلمها الجديد يستعير شيئاً من الأسلوب البنائي لأول أفلامها الطويلة، بمزجه بين الوثائقي والروائي.


بهذا المزيج، يجلب "بنات ألفة" إلى "كانّ" قصّة مليئة بالتناقضات والكشوفات عن ألفة الحمروني، وهي امرأة تونسية وأمّ لأربع بنات كانت شاهدة على انخراط ابنتيها الكبيرتين في داعش. في الفيلم، هناك ممثلتان تلعبان دوري الابنتين الكبيرتين، فيما تلعب الفتاتان الصغيرتان دورهما جنباً إلى جانب والدتهما. تنسج بن هنية سردية سينمائية لافتة لرفع الحجاب عن قصّة ألفة وبناتها. والنتيجة؟ رحلة حميمة من الأمل، والتمرد، والعنف، والتجاوز، والأختية تشكّك في أسس مجتمعاتنا ذاتها، مثلما تسأل بعض الأسئلة الصعبة عن الأمومة والصدمات واللامبالاة الرسمية.


من هي ألفة الحمروني؟

مواطنة تونسية من سوسة. لديها أربع بنات: غفران، رحمة، آية، تيسير. التحقت ابنتاها البكريتان بداعش في العام 2015، وشاركا مع زوجيهما في هجوم بن قردان العام 2016، والذي قُتل خلاله الزوجان وعلى إثره سُجنت الشقيقتان في ليبيا منذ ذلك الحين. تبدأ قصّة الفتاتين الداعشيتين، مثل العديد من القصص المشابهة لمراهقات يغويهن حلم الجهاد، بمحاولة الأمّ الحدّ من سلوكهما المتطرّف. غفران ورحمة، البالغتان من العمر 16 و15 عاماً، تظهران علامات التمرّد، تستمعان إلى موسيقى "غريبة"، وترتديان ملابس غير معتادة. كل هذا يحدث بوتيرة سريعة بعد أن ترك والدهما الأسرة من دون نقود أو مساعدة من أي نوع.

ألفة نفسها تعترف بأنها لم تكن أفضل الأمّهات بل إنها كانت تضرب بناتها، وكأنها تصرّف غضبها وحزنها من طلاقها في تعنيفهن. لكنها داومت على فعل ذلك لأن هذه هي الطريقة التي عرفتها وخبرتها حين كانت في مثل عمرهن (أمّها فعلت الشيء نفسه معها، وكأن التاريخ الثقافي وصدماته يتوارث من الأمّ إلى الابنة) أكثر منه بدافع تعمّد الأذى. في الواقع، أدركتْ أن ابنتيها الأكبر سناً لم تكونا على ما يرام، لكن نهجهما تجاه مجموعة دينية متشددة (اتخذت مقرّها التجنيدي في زاوية صغيرة من حيّهم الفقير) بدا لها طريقة جيدة لإعادتهما إلى المسار الصحيح.

كان من الممكن أن يساعدهما الإيمان والتقرب إلى الله، بحسب ألفة، التي تقول في الفيلم "في العام 2012، عندما حدث كل شيء، لم نكن نعرف داعش.. اعتقدت أن فتياتي لا يمكنهن الاستماع إلا إلى داعية". لكن سلوك البنتين تغيّر تدريجياً، وأصبح أكثر راديكالية ومحافظة. كانا يعرفان فقط كيفية الصلاة والصيام خلال شهر رمضان ولم يكن لديهما أي فكرة عمّا يعنيه، مثلاً، القتال والموت في أماكن مثل سوريا، كما أخبرهما الشيخ الداعشي. لكن، كما نعلم جميعاً، في مناخٍ وبيئة يعوزهما الكثير، تجد داعش وأمثالها عناصرها المحتملين بين الشباب الساذجين والفقراء والمنسيين من قبل المجتمع والدولة.


بعد ذلك بعامين، هربت غفران للانضمام إلى داعش. وتواصلت هي وشقيقتها مع الجهاديين عبر "فيسبوك" وأقسمتا بالولاء للمتطرّفين. حاولت الأم كثيراً لفت الانتباه لمآساتها، حتى إنها أبلغت الشرطة باشتباهها في اتجاه ابنتها رحمة صوب التطرّف الديني، بغية إنقاذها من مصير أختها. لكن الشرطة لم تعط القضية الأولوية التي تستحقها، فهربت رحمة هي الأخرى، بعد الإفراج عنها. التحقت الفتاتان بداعش في ليبيا المجاورة. ناشدت الأمّ المكلومة عبر التلفزيون مِن يهمّه الأمر: "عليّ حماية ابنتيّ الأخريين الآن ولا يمكنني القيام بذلك بمفردي.. أنا فقيرة. لا أستطيع تحمّل تكاليف طبيب نفساني ومدرسة وكتب. لا أستطيع تحمّل تكاليف الحياة أو التعليم الديني لبناتي. على الحكومة مساعدتي".


ورشة للتذكّر والعلاج

هُنا سمِعَتها كوثر بن هنية، ليس في التلفزيون وإنما على الراديو. تقول المخرجة في حديثٍ خاص لـ"المدن": "كنت قد انتهيت للتو من فيلمي الوثائقي "زينب تكره الثلج"، والذي كلّفني ست سنوات من العمل عن حياة فتاة مراهقة، عندما سمعت على الراديو ألفة تحكي القصة المأساوية لابنتيها".


وتتابع بن هنية "شعرت على الفور بأنه تمّ استدعائي ورأيتُ في هيئتها الأمومية، بكل تناقضاتها وغموضها، شخصية سينمائية رائعة. لسنوات تالية، ظلّت قصتها المعقدة والمروعة تطاردني: أردت أن أحكيها ولكن من دون أن أعرف كيف. لذلك اتصلت بالصحافي الذي أجرى المقابلة معها وحصلت على رقم هاتفها وطلبت منها مقابلتي. وهكذا بدأ كل شيء."


قصة ألفة معروفة جيداً في تونس، بعدما أصبحت ضيفة متكررة في البرامج الإذاعية والتلفزيونية. لكنها، للأسف، قصة شائعة جداً، ولذلك أرادت المخرجة مقاربتها من زاوية النساء والأمّهات والبنات. "في البداية، أردتُ إنجاز فيلم وثائقي حول ألفة وابنتيها المتبقيتين، آية وتيسير، وبدأتُ تصويرهما في العام 2016. لكن عندما أدركنا أن معظم الأحداث قد مرّت، كان علينا أن نجد موضعاً آخر لسرد هذه القصة بطريقة سلسة وليس كقصة وثائقية كلاسيكية. كذلك أدركت أن هناك شيئاً ما خطأ: كان الأمر كما لو أن هناك جزءاً من الحقيقة مفقود، وكانت ألفة نفسها تتصرّف كما رأيتها تفعل مرّات عديدة أخرى على شاشة التلفزيون".


"الصورة الإعلامية التي انتشرت لألفة كانت عبارة عن كليشيهات: أمّ بكّاءة، هستيرية، مصبوغة بالذنب. وكل ذلك جعلها ممثلة مأساوية عظيمة ولكن أحادية البعد. يستغرق الحفر في التناقضات والمشاعر والعواطف وقتاً لا يملكه الصحافيون في كثير من الأحيان. من ناحية أخرى، تتمثل مهمة السينما في استكشاف تلك المناطق الغامضة في النفس البشرية، ولذلك بدأت أعتبر فكرة الفيلم بمثابة ورشة عمل علاجية تقوم على إعادة صياغة/استدعاء الذكريات". وتتابع بن هنية "ولهذا السبب اخترت الاستعانة بهند صبري لتلعب دور ألفة في الفيلم وراجعت هيكله. أدركتُ أن أفضل طريقة لإعادة ألفة إلى أرض الواقع وذكرياتها ستكون من خلال صناعة فيلم وثائقي حول التحضير لفيلم روائي افتراضي".


وعد كامن

"بنات ألفة" فيلم وثائقي بمعنى أن الحقائق المتعلّقة به هي وقائع حقيقية عاشتها شخصيته المركزية ألفة الحمروني. فيلم يروي الأحداث التي مرّت بها هذه المرأة خلال السنوات العشر الأخيرة من حياتها. هذه الأحداث في الفيلم ترويها الشخصية الحقيقية وتمثّلها هند صبري. التفاعل بين الشخصية الحقيقية (ألفة) وتجسيدها (هند صبري) في حضور كوثر بن هنية هو الذي يعيد صياغة الأحداث الرئيسة التي مرّت بها ألفة. على مدار مقابلات وإعادات تمثيل وتبادلات حميمة بشكل متزايد بين سبعة نساء (ألفة وهند صبري والمخرجة والشقيقتين الأصغر والممثلتين في دور الشقيقتين الأكبر) يطاردهن شبح الشقيقتين الغائبتين، يتتبع الفيلم تاريخ السيطرة العلمانية والمؤسسية والدينية والسياسية على أجساد النساء.

يمكن القول إنه تخييل وثائقي أو "ميتا فيكشن" Metafiction، ولكن الفيلم أيضاً، بطريقة أو بأخرى، طريقة لإثبات أن الخطّ الذي يفصل بين الوثائقي والروائي رفيعٌ ودقيق. فهو فيلم يتاخم حدود الوثائقي والروائي، ويتقاطع مع كليهما في بعض الأحيان، وفي الوقت ذاته، من الناحية التقنية، هو فيلم وثائقي مصوّر بوسائل وآليات تتجاوز تلك الموجودة عادةً في الأفلام الروائية.

لذلك، يصعب عرض الفيلم أو الحديث عنه أو حتى اتخاذ موقف منه إلا برؤيته. فهناك الكثير من السرد القصصي، وهناك أيضاً الكثير من المشاعر، والدعابة السوداء وحتى السخرية. في سرده حكاية الصدمات الموروثة والعنف المتوالد من جيل إلى جيل؛ يذكّرنا أحياناً بفيلم "انتحار العذراوات" (1999، صوفيا كوبولا)، ويروي أيضاً مرحلة المراهقة وما يطبعها من حاجة المرء لتجاوز حدود عالمه، وقابلية الإنكسار التي تتعرّض لها الشابّات حين التحوّل إلى نساء. يتحدث عن محنة الأمهات اللواتي يدمنّ العلاقات السيئة والعشّاق المخيّبين، ومحنة الفتيات المُعنَّفات، والحبّ رغم كل شيء. وسينتهي بالطبع بقول ما جرى لرحمة وغفران. لكن قبل كل شيء، بالتذكير بإمكانية كسر دائرة العنف والقمع، من خلال هذا الوعد الكامن في الوجوه الجميلة والحرّة لبنات ألفة الشابّات.

"بنات ألفة" فيلم طموح ومشغول بحرفية، مشاهدته واجبة ويستدعي فتح النقاش حوله. لإنه فيلم يتحدّث عن العقد الأخير من تاريخ تونس والذي لم يكن رائعاً بالقدر نفسه على كافة الأصعدة. تمثّل ألفة وبناتها الكثير من التونسيين، للأسف، وفي زحمة مأساتها المتراكبة تكمن بعض أسرار الصندوق الأسود لبلدٍ كان مثالاً واعداً لحلم عربي بالديمقراطية والحياة الكريمة حتى استحال أخيراً إلى حكاية تحذيرية من خطر الشعبوية والانسداد السياسي.

increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها