الأحد 2023/05/21

آخر تحديث: 08:19 (بيروت)

الجماعة الدينيّة ومعضلة الحرّيّة

الأحد 2023/05/21
الجماعة الدينيّة ومعضلة الحرّيّة
اجزاء من تمثال الحرية لجواد سليم
increase حجم الخط decrease
 
القرينة الاجتماعيّة واضحة: تعيد الحداثة تشكيل المجتمعات وتمهرها بخاتمها. لعلّ أحد أبرز مظاهر إعادة التشكيل هذه يكمن في أنّ المجتمعات الحديثة هي أكثر تعدّداً بما لا يقاس من تلك التي سبقتها إبّان أزمنة ما قبل الحداثة. 

هذا لا يستتبع طبعاً أنّ المجتمعات الماضية لم تعرف التعدّد. المدن الكبرى في الإمبراطوريّة الرومانيّة، مثلاً، كانت تتّصف بتنوّع دينيّ وثقافيّ هائل، ما يجعلها تشبه، إلى حدّ لا يستهان به، مجتمعاتنا الحديثة. فهذه المدن كانت تنطوي على مجموعات غاية في الاختلاف بالنظر إلى انتمائها الإثنيّ والثقافيّ. وعلى الرغم من حرص الحكّام الرومان على عدم المسّ بالديانة الرومانيّة الرسميّة بوصفها ضامنةً لوحدة الإمبراطوريّة، إلّا أنّهم كانوا على كثير من التسامح في تقبّل الأفكار الدينيّة الأخرى واستدخالها في منظومتهم «الرسميّة» ما دامت لا تسائل مسلّمات هذه المنظومة (هنا بالذات كانت تكمن مشكلة المسيحيّة، التي رفضت الاعتراف بهذه المنظومة، ما أفضى إلى اضطهاد أتباعها إبّان القرون الثلاثة الأولى). غير أنّ الحداثة جعلت من التعدّد ظاهرةً شاملةً تكاد لا تخلو منها أيّ بقعة من بقع الأرض، ولا سيّما المدن، التي يعيش فيها اليوم أكثر من نصف سكّان الكوكب، وذلك لأوّل مرّة في التاريخ. 
هذا التعدّد الذي يصاحب الحداثة، ويُعتبر واحداً من أبرز معالمها، لا يفصح عن ذاته عبر تداخل الجماعات الإثنيّة والثقافيّة والدينيّة على اختلافها وما تختبره في العادة من تبادل فحسب، بل ينعكس خصوصاً عبر تعدّد الإمكانات والخيارات المتاحة للإنسان الفرد. والثابت أنّ هذه الإمكانات والخيارات لا تختصّ بالجانب «الشكليّ» فقط كالمأكل والمشرب والملبس والمسكن ونوع العمل ومكانه، بل تطال أيضاً، وهذا هو الأهمّ، الجانب الأخلاقيّ والدينيّ، حتّى إنّ الأزمنة الحديثة التي نعيش فيها كثيراً ما تبدو وكأنّها سوبرماركت ضخم للإمكانات الأخلاقيّة والخيارات الدينيّة. ويلفت علماء الاجتماع إلى أنّ الإنسان الحديث كثيراً ما يلجأ إلى «تركيب» دينه، بمعنى أنّه ينتقي عناصر روحيّةً وأخلاقيّةً من هنا ومن هناك، ويصهرها في بوتقة ذاته جاعلاً منها ديناً خاصّاً به لا يشبه أيّاً من المنظومات الدينيّة «الرسميّة». معضلة الأزمنة الحديثة تكمن، إذاً، في أنّها وسّعت نطاق المتحوّل المتاح للإنسان الفرد وضيّقت نطاق الثابت الموروث في العادة من المجتمع وما يشتمل عليه من مؤسّسات. ثمّة، إذاً، ظاهرة متنامية تتّسم بها الحداثة تقوم في أنّ الإنسان الفرد بات أكثر قدرةً على التمايز عن الجماعة التي ينتسب إليها، وذلك عبر تبنّيه خيارات حياتيّة وأخلاقيّة تتعارض مع الثوابت التي تروّج لها هذه الجماعة. ولا يندر أن تفضي هذه الديناميّة إلى استقلال تامّ للفرد عن جماعته أو إلى مسارعتها هي إلى استبعاده أو فرزه. لكن من الممكن أيضاً أن يبقى هذا الفرد مرتبطاً بجماعته بخيوط واهية تارةً ومتينة طوراً على الرغم من ذهابه، في أمور كثيرة، مذهباً يختلف عمّا تتوخّاه هي من سلوك أعضائها. فيغدو انتساب الفرد إلى الجماعة انتساباً شكليّاً لا يستتبع بالضرورة أن يمتثل لكلّ قوانينها.

ينتج من هذا كلّه أنّ الحداثة تطرح قضيّة الحرّيّة كما لم تُطرح في أيّ من العصور السابقة. المقصود بالحرّيّة، هنا، حرّيّة الاختيار بين إمكانات حياتيّة وفكريّة وأخلاقيّة وروحيّة متنوّعة، وذلك لأنّ الحداثة، كما أوردنا، وسعّت مساحة المتحوّل وضيّقت مساحة الثابت. بطبيعة الحال، هذا الانزياح الخطير الذي أتت به الحداثة لمصلحة حرّيّة الاختيار لم يجعل حياة الفرد أكثر سهولةً، بل أضفى عليها كثيراً من التعقيد. هذا التعقيد مردّه أنّ الفرد مطالب، على نحو شبه مستديم، باستجلاء الإمكانات المتاحة له واتّخاذ ما يبدو له ملائماً من قرارات عليه أن يتحمّل مسؤوليّتها، وذلك عوضاً عن اللوذ بمفاهيم وسلوكيّات يستمدّها ممّا تعتبره الجماعة ثوابت ومسلّمات. 

لئن كان الفرد غير معفًى من تدبّر مسألة حرّيّته، إلّا أنّ الحداثة تطرح قضيّة الحرّيّة على ضمير الجماعة أيضاً، بمعنى أنّها تسائل هذه الجماعة عن كيفيّة تعاطيها مع الحرّيّة الفرديّة بوصفها قيمةً تنتسب إلى جوهر الوجود الإنسانيّ. هذه الملاحظة تنسحب بصورة خاصّة على المؤسّسة الدينيّة لا لأنّ هذه تزعم أنّ قضيّة الإنسان هي في صلب رسالتها فحسب، بل لأنّ المؤسّسة الدينيّة كثيراً ما تلتصق بثوابت عقيديّة تعتبرها غير قابلة للمراجعة أو لإعادة النظر، ما يسفر أحياناً عن ضرب من التوتّر بين حرّيّة التفكير الفرديّ والعمارة العقيديّة. هذا التوتّر، إذا بلغ حدّه الأقصى، كثيراً ما يفضي إلى قطيعة بين الفرد والجماعة تفصح عن ذاتها أحياناً عبر ديناميّات كالتجاهل والتهميش والفرز والتكفير. ثمّة، على هذا الصعيد، جملة من الأسئلة لا بدّ من الانكباب عليها ومحاولة صوغ أجوبة عنها: هل تبرّر المحافظة على نصاعة الفكر فرز الأفراد؟ هل إطلاق الأحكام التكفيريّة هو فعلاً من اختصاص المؤسّسات الدينيّة؟ إلى أيّ مدى تستطيع الجماعة الدينيّة أن تأخذ مسألة الحرّيّة بأبعادها كافّةً على محمل الجدّ؟ هل ثمّة نموذج دينيّ يحتضن الحرّيّة الفرديّة احتضاناً كاملاً، وإذا كان هذا النموذج موجوداً بالفعل، ماذا يبقى من الدين؟ هذه الأسئلة ليست جديدةً بالطبع. لكنّ الحداثة جعلتها أكثر حضوراً وآنيّةً. وهي بالتأكيد جديرة بالتفكير.
 
increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها