السبت 2023/05/20

آخر تحديث: 12:38 (بيروت)

"السّد": السودان ووحوشه

السبت 2023/05/20
"السّد": السودان ووحوشه
يكسر ماهر دورة الزمن القدرية
increase حجم الخط decrease
يمكن لفيلم أن يكون نبوءة، أو أن تمنحه الأحداث المتلاحقة معنى آخر حتى قبل اكتماله. في العام 2017، وصل الفنان التشكيلي اللبناني، علي شري، إلى شمال السودان للعمل على فيلم عن سد مروي. بحافز من التوتر الإقليمي حول سد النهضة الإثيوبي، استلهم شري موضوعه الأثير، أي العنف في أشكاله الضمنية ممثلاً في التدخلات الأركيولوجية والمتحفية وغيرها، وفي حالتنا هذه الأعمال الإنشائية الضخمة لترويض الطبيعة وتحويل مسارها.

يُعدّ سد مروي الكهرومائي واحداً من أكثر المنشآت عنفاً في تأثيره في البيئة المحيطة وحياة السكان المحليين، إلا أن ما يستولي على انتباه شري ليس جسد السد نفسه أو تبعاته البيئية المباشرة، بل ساحة إنتاج الطوب بالقرب منه على ضفة النهر، وحيوات عمالها، ومن بينهم الشخصية الرئيسية في الفيلم، "ماهر".

في خطين مستقلين، وإن كانا يتقاطعان بشكل متواصل، يقدّم فيلم "السد" تسجيلاً لسير العمل في ساحة إنتاج الطوب، ومعه سردية درامية يتصدّى لبطولتها ممثلون غير محترفين، هم عمال الساحة أنفسهم. تداخل الحقيقي والخيالي بحيث يصعب التمييز بينهما أحياناً، ينتج ما يتعارف عليه في الفنون التشكيلية، بأسلوب "السوبر فيكشن"، أو ما يمكن وصفه بالواقعية السحرية بحسب التعبير الأدبي. ثمّة زمنان، الزمن السياسي والزمن المطلق.

الأول يحدّد علاماته سيل الأخبار المذاعة في الراديو عن الاحتجاجات ضد البشير، حتى سقوطه. وفي تدفق هذا الزمن، يستمع عمال الطوب إلى الأخبار وكأنها ضوضاء خافتة تأتي من بعيد، من العاصمة، وبلا تعليق منهم وبلا تأثير لها يلحق بظروفهم. أما الزمن الثاني، فيبدو أزلياً ومؤبداً في تكراره وقِدمه، وفيه تدور عجلة الروتين اليدوي للعمال تحث الشمس الحارقة، وهم يستخدمون التقنية التقليدية الموروثة عبر مئات السنين، لإنتاج الطوب من الطمي.


يكسر ماهر دورة الزمن القدرية، بمغادرته موقع العمل بشكل متواتر قاصداً الصحراء المتاخمة، وهناك يعمل خفية على مشروعه الخاص، بناء من الطين غير واضح الملامح، يبدو كبرج طقوسي في البداية، ثم يأخذ مع الوقت شكل الوثن، فالوحش الذي يشرع في امتلاك حياته الخاصة، وإطلاق زئير مخيف. بعد عزل البشير والاضطرابات اللاحقة، سيضطر طاقم الفيلم لوقف التصوير، قبل أن يستأنفوه لاحقاً. أما العمال في ساحة الطوب، فشقاؤهم، مثل الاستغلال الذين يتعرضون له، يظل مستمراً. ذلك العنف الضمني يظهر في الصمت، يعيش العمال معاً في موقع العمل، لكنهم نادراً ما يتبادلون الحديث، لا أثناء العمل ولا بعده في المساء. يسيطر على ماهر بدوره صمت مقدّس، وكأن اللغة تتحطّم قدرتها على التعبير تحت ثقل المعاناة والخراب.

في الأجساد أيضاً يظهر العنف، يعاني ماهر جرحاً متقيحاً أسفل ظهره، ولاحقا ستطفو جثة نازفة لغريق غلبته مياه السد العارم، ويجعلنا هذا نتساءل إن كان لذلك علاقة بمذبحة القيادة وجثثها الطافية على صفحة النيل. في تجاور الطبيعي والهندسي، وفي الشد والجذب بين الخيالي والواقع السياسي، ينمو توتر يعمقه الخرس. لكن انتقالات ماهر المتتابعة بين الصحراء وساحة الطوب، تظهر وكأنها رحلة للتداوي يحدوها الأمل في الخلاص.

هل الوحش الطيني إذاً هو الثورة أم شبحها؟ أم أنه شيء آخر؟ يلتزم الفيلم الصمت حيال رمزياته، وهي ملتبسة عمداً ومتناقضة، بلا إيماءات ومن دون تلميحات سهلة التأويل. كذلك، لا يمنحنا "السد" خلاصاً مؤكداً ولا نهايات منمقة ومكتملة. ينهار مشروع ماهر، لكنه يتغلب على مخاوفه في مشهد ختامي محير، حيث لا يمكن الجزم بمصيره. الأكيد هو دورة الزمن، وتلك المحاولات الحثيثة للخلاص والتصميم على تكرارها رغم كل شيء.
increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها