الجمعة 2023/05/19

آخر تحديث: 13:52 (بيروت)

هيروكازو كوريدا يفتتح مسابقة "كانّ" بقوة.. الوحش بداخلنا

الجمعة 2023/05/19
increase حجم الخط decrease
بعد سنوات متقلّبة في بدايات العقد الثاني من الألفية، يبدو أن السينمائي الياباني هيروكازو كوريدا (1962) يمرّ بمرحلة إبداعية لافتة تثير الاهتمام والمتابعة، والتي شهدت فوزه في "كانّ"، قبل أربع سنوات، مع فيلمه "سارقو المتاجر"، مثلما شهدت تصويره فيلمين خارج اليابان على غير عادته. فيلمه الجديد، "وحش"، المتنافس ضمن المسابقة الرسمية للمهرجان، ينتمي إلى هذه المرحلة الخصبة بالتأكيد، ومن البداية يجب الإشارة إليه كواحد من المرشّحين المحتملين لنيل السعفة الذهبية، حيث إن هذه الدراما المعقّدة والعاطفية المتمحورة حول صبي يمرّ بمرحلة مضطربة في حياته تملك بعضاً من أفضل عناصر سينما المعلّم الياباني فضلاً عن عدد من التحديّات/الاقتراحات الأسلوبية الجديدة التي لم يخضها من قبل.

في ظاهره، أو في بدايته، يحكي "وحش" قصة العلاقة بين أمّ أرملة وابنها البالغ من العمر عشر سنوات. ساوري (الرائعة ساكورا أندو) هي الأمّ المعنية، شابّة، عطوفة، انفعالية، تملك شخصية فضولية وتكرّس حياتها لابنها ميناتو (صويا كوروكاوا). لكن الصبي يبدأ في مواجهة مشاكل في المدرسة، وصعوبات تولّد أسئلة غريبة، وحالات اختفاء مفاجئة، ما يدفع الأمّ للذهاب إلى المدرسة لمعرفة ما يجري.

ذات يوم يطرح ميناتو أسئلة حول ما إذا كان من الممكن وجود دماغ خنزير في جسد رجل، يقفز من سيارة مسرعة، يختفي فجأة.. يكتسب سلوكاً غريباً. سرعان ما يصارح والدته أن مدرّس التربية البدنية أخبره بلهجة خشنة أنه يشبه وحشاً. يدفع ذلك الأمّ إلى الذهاب إلى المدرسة، وتقديم شكوى إلى المدير فوشيمي (تاناكا يوكو) - الذي عاد لتوّه إلى المدرسة بعد غياب طويل على ما يبدو - ودفع المعلم المعني (ناغاياما إيتا)، إلى الاعتذار للولد وأمّه. لكن الأمور لا تهدأ بعدما يختفي ميناتو في خضم عاصفة عنيفة تدفع الجميع لملازمة منازلهم ولا تستطيع والدته العثور عليه في أي مكان.

إحدى الطرق البسيطة لتلخيص ما سيحدث بعد ذلك في الفيلم تتمثّل في الاكتفاء بالإشارة إلى أحد كلاسيكيات السينما العالمية العظيمة، وبشكل أكثر تحديداً السينما اليابانية. الحديث هنا عن فيلم "راشومون" (1950، أكيرا كوروساوا). ما سيفعله سيناريو ساكاموتو يوجي من الآن فصاعداً هو إعادة النظر، مع بعض الاختلافات، في تلك المرحلة من حياة ميناتو من خلال الشخصيات المختلفة المشاركة في القصة، ما يعني أن ما رأيناه حتى تلك اللحظة كان مجرد رسم تخطيطي لما كان يحدث حقاً.

إذا كان الفيلم في جزئه الأول قد عرض القصّة من منظور الأمّ، فإنه يمرّ بعد ذلك عبر منظور مدرّس التربية البدنية، وقليلاً من مدير المدرسة، تاركاً في النهاية شخصية مهمّة سنلتقي بها لاحقاً (صبي اسمه يوري)، ثم بطل الفيلم نفسه. ليس الأمر مجرد تكرار أو رواح ومجيء داخل القصّة نفسها - هناك أشياء تتكرّر، وأخرى لا تظهر أصلاً، وفي العموم، تظهر العديد من الأشياء الجديدة - لكن الفكرة تكمن في فتح بانوراما سردية شيئاً فشيئاً لفهم ما حدث ويحدث لميناتو ولماذا يتصرّف بالطريقة التي يتصرّف بها.


الكشف عن المزيد سيدخلنا في أرض مفسدات الفرجة الممنوعة، حيث يتغيّر المحور في كل مرحلة وما يعتقد المرء بحدوثه بعد مشاهدة إحداها يتغيّر جذرياً تماماً حين تُدمج عناصر جديدة في الحبكة. الموضوعات هي نفسها كما هو الحال دائماً مع كوريدا: عائلات محطَّمة ومفكّكة، بحث عن هوية، فقدان، صداقة، رغبة، تضامن، صمت، أسرار، وأكاذيب يستخدمها الجميع تقريباً لمناورة الضغط الاجتماعي ونظرة الآخرين الرافضة. التنمُّر في المدرسة سيشكّل عنصراً مهماً هنا أيضاً، وسنرى كيف يولّد مواقف وسلوكيات للأطفال تؤدي بهم إلى المزيد والمزيد من المشاكل.

في بعض الأحيان، ينحو كوريدا بمقاربته لتخوم الواقعية السحرية (هناك مشاهد يمكن تخيّلها خارجة من فيلمٍ لهاياو ميازاكي)، لكنه سرعان ما يلجم نفسه عن الغوص في هذا المسار. ما يربط بين الشخصيات وقصة ميناتو هو شعور بالوحدة وعدم الفهم يتملّكهم كلّهم، وانحيازهم لفكرة أن من الأفضل لهم مواكبة المظاهر بطريقة منافقة بدلاً من الاعتراف بمشاعرهم وما يحدث لكلّ واحد منهم، بدافع خوفٍ رابض بداخلهم من أي نوع من الحكم أو النظرة الشائنة أو الإدانة الاجتماعية. بهذا المعنى، يتناول الفيلم قلق المرء (في هذه الحالة، طفل) حين لا يعرف كيف يتفاعل مع الأشياء التي تحدث له - والتي ليست بالضرورة كما تبدو للوهلة الأولى - والغموض الملازم لجهل المرء بكيفية فهم طريقة ارتباطه بالعالم وغرس أرجله في مكانٍ مأمون يخصّه. أو بعبارة أخرى، ما الذي يجعل المرء يشعر وكأنه وحش؟ وما الذي يجعلنا كبشر نسيء فهم بعضنا بعضاً؟

مشفوعاً بموسيقى ريويتشي ساكاماتو (هذا آخر ما أنجزه قبل وفاته في آذار الماضي، والفيلم مُهدى إليه)، يأتي "وحش" فيلماً أكثر من جيد يؤكّد أن صانعه يمرّ بلحظة مميّزة في مسيرته المهنية. في سنّ الستين، وبعد مشوارٍ من تقديم قصص مرتكزة على موضوعات ثابتة، أصبح هيروكازو كوريدا اسماً أساسياً في السينما اليابانية والعالمية. بعد أربعة أعوام من فوزه بالسعفة الذهبية، ربما يكّررها من جديد بهذه الميلودراما الحسّاسة والحانية، رغم أن القصّة التي كتبها ساكاموتو يوجي تملك حِسّاً تعليمياً وبعض التعسّف والتلاعب غير المعتادين في فيلموغرافيا هذا السينمائي الاستثنائي.
increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها