الأربعاء 2023/05/10

آخر تحديث: 11:43 (بيروت)

"محادثات" غازي باقر...بحثاً عن قوّة الاتصال في تشكيل حياتنا

الأربعاء 2023/05/10
increase حجم الخط decrease
يقول غازي باقر، الذي يعرض أعماله في "غاليري مارك هاشم" تحت عنوان "محادثات"، أنه، كفنان، كان دائماً مفتوناً بقدرة التواصل على جمع الناس بعضهم مع البعض الآخر، وبدور هذا الإحتكاك والتواصل في إلهامهم وشفائهم، وبتبديل فهمهم للعالم. هذه الفكرة، أو التيمة، تقع في صلب أعماله الأخيرة، المعروضة في الصالة المذكورة، وهي التي تكوّن سلسلة مترابطة نابضة بالحياة والحركة  الناجمين عادة عن التفاعل بين البشر.
 
يقع الإيمان بقوة التواصل، وقدراته في الربط بين البشر، في صلب هذه المجموعة التي نفّذها الفنان، وهو الذي يدرك أننا نعيش، في الوقت الحالي، في عصر يغلب عليه الاستقطاب والانقسام المتزايد، بحيث يصبح من السهل جدًا، بالنسبة للبعض، وربما للكثيرين، الإنسحاب إلى غرفهم وزواياهم الخاصة، التي لا يُسمع فيها سوى الصدى، وتجول ضمنها أخيلة العزلة والوحدة. إن أحد الأسباب الرئيسة التي قد تؤدي إلى سلوك هذا النهج هو إنحياز الخليقة إلى أفكار جامدة، والتمسك بآراء أو معتقدات شديدة التناقض. ويعتبر باقر أنه، ومن خلال التواصل والمحادثة، قد يكون من الممكن إقامة جسر بين هذه الانقسامات، وإيجاد أرضية مشتركة، وبناء مجتمعات أقوى وأكثر مرونة. وهو يأمل أن يلهم معرضه الفني المشاهدين للانخراط في محادثات هادفة خاصة بهم، والاستماع بعمق لمن حولهم، واحتضان القوة التحويلية للتواصل البشري، سواء كان المرء من محبي الفنون المتمرسين، أو من المهتمين ببساطة بالعالم الذي نعيش فيه.

(مرآة على الحائط)

هذا المعرض يمثل دعوة للانضمام إلى الفنان في رحلة الاستكشاف هذه، التي أراد من خلالها تبيان أن المحادثات تشكل جزءًا أساسيًا من أدوات التواصل البشري، مما يسمح لنا بمشاركة أفكارنا ومشاعرنا مع الآخرين. وسواء كنا نتحدث مع الأصدقاء أو العائلة أو الزملاء، فإن هذه المحادثات توفر لنا إحساسًا بالتفاعل، وتساعدنا على بناء علاقات هادفة. ومن حيث المبدأ، تتطلب المحادثة الفعّالة الاستماع للآخر والتعاطف معه أحياناُ، واحترام نظرته إلى الأمور.

ومن خلال ذلك، يمكننا فهم وجهة نظره بشكل أفضل وبناء الثقة والألفة. بالإضافة إلى مساعدتنا على التواصل مع الآخرين، تؤدي المحادثات أيضًا دورًا مهمًا في النمو الشخصي والتعلم، عندما ننخرط في نقاشات مع أشخاص من خلفيات ووجهات نظر مختلفة، ما يمكّننا من اكتساب رؤى جديدة، ويوسع فهمنا للعالم. ومع ذلك، ليست كل المحادثات إيجابية أو منتجة، إذ يمكن أن تؤدي المحادثات السيئة إلى سوء الفهم، وإيذاء مشاعر الآخرين وإتلاف العلاقات. لذا، فمن المهم التعامل مع كل محادثة بعقل متفتح، واستعداد للتعلم من الآخرين.

هذه الأمور التي شغلت بال غازي باقر، وهي المستندة إلى شعور إنساني غير بعيد من المثالية، عمل على محاولة تجسيدها في أعماله. وغني عن القول، أن هذا التجسيد لا يتشابه مع محاكاة منظر طبيعي واضح المعالم يرتسم أمامنا. لقد ابتكر الفنان، من حيث المنظور التشكيلي، أسلوباً خاصاً به، يجمع بين عناصر التجريد والتصوير التمثيلي، بهدف إستكشاف، أو التفكير بالمسائل المعقّدة التي تميز التواصل والتفاعل بين البشر.

لا نرى في أعمال باقر تجريداً صافياً، بل انعكس هذا الإتجاه لديه أشكالاً تلعب فيها الهندسة دوراً لا يمكن إغفاله: خطوط  مستقيمة، مربعات غير مكتملة، دوائر غير مكتملة بدورها، وهذه العناصر تتداخل في ما بينها لتشكّل ما يشبه الأحجية. من جهة أخرى، لا يخلو عمل من الأعمال من إشارات واقعية، مع الأخذ في الإعتبار أنها جاءت محوّرة، أكان من حيث إرتقاءاتها، أم من حيث حجمها النسبي ضمن العمل.

(مزاج)

على هذا الأساس، يحاول باقر، عبر أعمال ذات أحجام كبيرة، تصوير مشاهد مختلفة للتفاعل البشري على نحو لا يخلو من الرموز، كما يحاول، مجازياً، أن يلتقط الفروق الدقيقة بين أنواع الإتصال. التشابك الذي نلحظه بين مكوّنات اللوحة، والتفكيك الظاهر، أراد الفنان من خلالهما تسليط الضوء على التعقيد، وعدم القدرة على التنبؤ بالعلاقات البشرية.

الأعمال المعروضة ذات أحجام كبيرة في معظمها، وقد ساعد هذا الأمر، كما نعتقد، في فسح المجال أمام التآليف الديناميكية ومتعدّدة الطبقات، التي تدعو المشاهد إلى الانخراط في العمل، واستكشاف وجهات النظر والعواطف المختلفة التي يتم التعبير عنها في كل لوحة. إلى ذلك، لم يبخل الفنان في استخدام ألوان صافية جريئة وأشكال مجزأة، سعياً إلى خلق إحساس بالطاقة والحركة في لوحاته. وقد نلحظ في هذه المجموعة، ولو عبر مدخل تشكيلي معين، تمثيلاً مرئياً لمحادثة، سواء اكانت تبادلا عميقاً وهادفا بين شخصين، أو نقاشاً حيوياً، أو لحظة هادئة تدعو إلى التأمل. ومن خلال استخدام الألوان الجريئة المذكورة، وضربات الفرشاة الديناميكية والأنسجة المعقدة، يسعى باقر إلى التقاط الطاقة والعاطفة لهذه التفاعلات، ودعوة المشاهدين للتفاعل مع الموضوعات والأفكار التي تنبثق عنها.

نهاية، وكما يشير الفنان، فإن هذه الأعمال هي دعوة موجّهة للمشاهد من أجل استكشاف الطبقات والأبعاد العديدة الحاضرة في كل لوحة. فهي تتحدى المشاهد في مواجهة افتراضاته الخاصة وتصوراته المسبقة حول التواصل والتفاعل البشري. يطلب منا باقر، من خلال نتاجه، استكشاف تعقيدات العلاقات والتعرّف على قوة الاتصال في تشكيل حياتنا وتجاربنا. وهو يأمل أن يلهم هذا العرض الفني المشاهدين للإنخراط في محادثات هادفة خاصة بهم، والاستماع بعمق لمن حولهم، واحتضان القوة التحويلية للتواصل البشري. 

(*) يستمر المعرض حتى 20 أيار، في غاليري مارك هاشم (ميناء الحصن - بيروت).
increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها