الإثنين 2023/05/01

آخر تحديث: 16:43 (بيروت)

أشياء رولا الحسين وأجسادها.. تُنادي ولا تُباغِت

الإثنين 2023/05/01
أشياء رولا الحسين وأجسادها.. تُنادي ولا تُباغِت
رولا الحسين
increase حجم الخط decrease
ثمة كتاب بعنوان "الأشياء تنادينا" للقاص والروائي الأسباني خوان خوسيه ميّاس. إذا كان لا بد من إدراج لوحات رولا الحسين(غاليري أجيال - الحمرا) تحت عنوان بعينه، لا بد عندئذ من أدراجها تحت هذا العنوان..."الأشياء تنادينا".
 
إن الأشياء في أعمال رولا تتجاوز كونها محض موضوعات بصرية. ذلك أن كثافة الحميمية التي تحايث هذه الأشياء، تنتقل بها، تنتقل بهذه الأشياء، لأن تكون موضوعات سرد فضلاً عن كونها موضوعات بصر، وكأني برولا التشكيلية عبر الأشياء التي تبثها في اللوحة هي امتداد لرولا الروائية.

قد يلبي العمل التشكيلي الحاجة البصرية لتلك الآلة التي في الوجه لكن هذا العمل ينتقل إلى أفق آخر من آفاق التلقّي لحظة طرقه ما يتجاوز حاسة البصر، تحديداً، لحظة طرقه باب الذاكرة. في لوحة رولا الحسين لا تباغت الأشياء الناظر بمشهد غير مألوف، بمشهد من عالم آخر... فمَنْ منّا لا يمتلك في بيته كرسياً أو سجادة أو صحناً يحوي موزة ورمانة، فنجان قهوة أو نافذة وإلى آخر هذه الأشياء!! بيد أن الأشياء هنا تنزاح عن كونها فعل مداومة يومية لتتحيّز في أفق آخر. 
تصير الأشياء ها هنا أقرب إلى نقر أصبع فوق باب الذاكرة الموصد... نقر خفيف وهامس يتحوّل بالتدريج ولدى التملّي في اللوحة إلى ضجيج داخل فجوة الذاكرة. فللأشياء العادية من الوجاهة ما لا يمكن تفاديه ولعل أبرز تمثيل لهذه الوجاهة للأشياء ما قاله أحد النقّاد عن رواية "البحث عن الزمن الضائع" لمارسيل بروست.

إن الأشياء هي مَنْ كتبت "البحث عن الزمن الضائع" كما يقول هذا الباحث، وليس بروست. إن بروست في هذا السياق هو اداة بشرية لكلام الكراسي والجدران والطرقات والشجر والأبواب وبشكل خاص الشبابيك، لكلامها عن نفسها.

لست أدري إذا ما كانت هذه المادة الصحافية هي قراءة في أعمال رولا الحسين. لعل هذه الأعمال هي في بعض متونها بمثابة المحفّز الذي يستحث الحكي عن تلك العلاقة بين الكلمات والأشياء، بين الذكريات وتمثلاتها الحسية.
ثمة سرد عبر كلمات غير منطوقة، عبر كلمات مكتومة هو ما يؤسس لوحة هذه الفنانة. ثمة الكثير من الكلمات المتوارية خلف الشكل واللون. فنحن إزاء نص بصري يواري الكلمات إلى حدّ الفجور بيد أن للكلمات على الدوم مساربها.

تحت عنوان "ما يراه المتلصصون" يكتب الباحث الفرنسي المتخصص في العلاقة بين السياسة والفن والأدب، جاك رانسيير ما يلي: "إن الحقيقة التي تخلق طفرة الكتابة... تتجلى في صوت مطرقة أو شوكة مائدة، في تجعّد فوطة الطعام... في ملامسة بلاطتين... وهي على الدوام حقيقة صامتة"... لكنها حقيقة تقول الكثير، كما أرى أنا إلى الأمور.

إن الصمت الذي يزاحم أشياء، رولا تراه أيضاً يقول الكثير، فنحن عبر لوحتها إزاء نمط آخر من أنماط علاقتنا بالأشياء، وللذاكرة هنا الحصة الأوفر حيث السرد الباطني هو سيّد المشهد بالإجمال.

فضلاً عن السرد الباطني الذي تقوله الأشياء العادية في أعمال رولا الحسين فإن للجسد في هذه الأعمال سرده الخاص جداً، سرده الصامت الذي لا يحفل بالكلمات.



كان بول فاليري يقول: الأشد عمقاً، هي البشرة. 
بعكس الأشياء، إن جسد المرأة العاري في لوحة رولا لا يتحيّز إلا لنفسه. فالجسد هنا لا يحمل مضامين تزيينية أو شهوانية أو تجميلية بل تراه في بعض مواضعاته بمثابة السيرة الذاتية. لا تلتفت أجساد رولا إلى إلحاح الأسئلة التي تتطرق لجسد المرأة المنفلش في هذه البلاد المنكمشة. لا تهتم لمآرب الجماعة حيال الجسد بالإجمال ولا تتطفل على سرديات الآخرين حيال علاقتهم بأجسادهم. فالجسد في هذه الأعمال لا يريد أن يلقي القبض على البصر بالقوة ولا يريد لهذا البصر أن يشيح، فجلّ ما تقوله أجساد رولا الحسين عبر لوحاتها: أريد أن أسترخي بهدوء تحت ضوء الشمس، أريد لجسدي أن يكون حراً... كان كاندينسكي يقول: الفنان ليس حراً في الحياة، إنما فقط في الفن.

إن الأجساد في لوحات رولا لا تسأل المتلقّي بذل مجهود من أجل فائض الرؤية، لا تريد هذه الأجساد لعين المتلقّي أن تنزلق من مكانها وأن تتدحرج بغية الوقوف على تفاصيل الجسد وانثناءاته والوقوف ملياً عند مساحاته الشاسعة... فجل ما تبغية تلك الأجساد اللامبالية هو الإسترخاء والغوص عميقاً في لا مبالاتها وأكثر ما تشي به هو أن على الناظر أن يركن بدوره إلى فسحة من الهدوء و"الرواق" لدى تملّيه في تلك الأسرار المعلنة.

بعكس الأشياء، إن الأجساد هنا صامتة، لا تتحيّن فرصة الإنقضاض على ما يتجاوز حقل الرؤية ولا تدّعي قول ما يتجاوز صمت استرخائها. هي أجساد بغاية الهناء لا تبغي استفزاز عين الذاكرة مثلاً أو استفزاز لسانها. إنه جسد عار وكفى ومجمل عمقه يكمن في سطحه بالذات، في البشرة. أما من شاء من المتلقّين معجمة هذا الجسد عبر رصفه بالكلمات، فليجتهد. فهذا الجسد المسترخي اللامبالي ليس على عجلة من أمره إزاء كل معاجم العالم. له لغته الخاصة، قوله الخاص. إنه الجسد المتمكّن من ذاته، المستأنس بذاته والذي هو بمنأى عن كل إجماع وتقرير.


جاء في "الأشياء تنادينا" لخوان خوسيه ميّاس، أن الطريقة الأفضل للكلام عن شيء هي الكلام عن شيء آخر.  لعل ما أرادتْ رولا الحسين قوله عبر أشيائها وعبر أجساد لوحاتها يتجاوز هذه الأجساد وهذه الأشياء، فاللوحة في نهاية الأمر نادراً ما تكتفي برصيدها الخاص كمحض شكل. فبعض السرديات، حتى البصرية منها، هي في بعض تعابيرها أشكال منقبضة من الآمال والتوقعات ومن الرجاء بمستقبل أفضل. لعل أشياء رولا وأجسادها هي نمط من اليوتوبيا المؤجلة أو من الحنين الذي لا مكان له في هذا العالم. 

... فلنكتفي بالأشياء إذن وبما تثيره من كلمات الذاكرة، ولنحاول الإسترخاء إسوة بتلك الأجساد المسترخية، فلا شيء يحفل بنا في هذا العالم ما خلا أجسادنا وتلك الذكريات البائتة. 

increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها