الإثنين 2023/05/01

آخر تحديث: 13:26 (بيروت)

حمور زيادة لـ"المدن":ما نعتبره مصيبة...يعتبره العسكريون يوم عمل عادي

الإثنين 2023/05/01
increase حجم الخط decrease
منذ اندلاع المواجهات المسلحة في السودان، اختار الروائي حمور زيادة الانحياز للطرف الذي يستحق. للمواطن السوداني العادي، الحلقة الأهم والخاسر الأكبر من هذه الحرب التي يزعم طرفاها أنهما يقاتلان بإسمه ولنصرته.

من وحي الواقع السوداني الجديد، دعا حمور قرّاءه إلى تأمل حياة ذلك المواطن الذي استيقظ صائماً يوم السبت 15 إبريل الماضي بخُطط لعيد الفطر.. ملابس جديدة لأطفاله، بعض المخبوزات، ربما كان سيستلم جلبابه الجديد اليوم أو غداً. لكن شاءت الأقدار أن تسير أموره في اتجاه مغاير لما خططه. فخلال ساعات تغيرت حياته تماماً، وجد نفسه محاصراً بالرصاص، بلا كهرباء ولا مياه لأيام: "هذا المواطن قد يكون ميتاً الآن. أو قد يكون جالساً على الأرض عند معبر أرقين ينتظر أن يصبح نازحاً رسمياً. وليس لديه مصدر دخل، ومستقبله مجهول". الواقع يتفوق في كابوسيته على الخيال!

لكن ماذا عن خطط حمور نفسه؟ سألته في مستهل حوار لمحاولة فهم ما يجري وقال إنه كان في سفر قصير خارج البلاد وخطط للعودة في الليلة التي تسبق عيد الفطر، ليقضي العيد مع أسرته، ثم تلقى خبر اندلاع المواجهات باتصال هاتفي صباح يوم السبت 15 إبريل. انقلب العالم فجأة رأساً على عقب. يقول: "في البداية ظننت أنها ستكون اشتباكات محدودة. كنت طوال فترة الأزمة بين العسكريين أمنّي نفسي بأنه تصعيد من أجل إرهاب الطرف الآخر. وأن أحدهما لن يكون بالحماقة ليخوض حرباً حقيقية سيكون ثمنها غالياً. لكني كنت أفكر بمنطق المواطن المدني، ليس العسكري الذي لا يعتبر الحرب كارثة يجب أن نفعل أي شيء لمنع وقوعها. بالنسبة للعسكري، الحرب هي حياته وما يجيده. لذلك مشى الجانبان إلى الحرب في مرح وسعادة. تراهم في التسجيلات التي يبثونها يقفون أمام بيوت مدمرة وسيارات محترقة وهم يهتفون ويبتسمون ويهللون. بينما تفكر أنت المدني في من كانوا داخل البيوت المدمرة، وخسارة صاحب السيارة المحترقة. ما نعتبره نحن مصيبة، يعتبرونه يوم عمل عادي. لذلك قيل أن الحرب أخطر من أن يترك أمرها للعسكريين وحدهم. لأنهم لا يفكرون فيها مثلما نفكر...

لنعد إلى 15 إبريل. منذ اليوم الذي بدأت فيه الأحداث الأخيرة في السودان وربما حتى الآن، مازال البعض يسأل ما الذي يجري تحديداً.. انقلاب، ثورة، تمرّد، ثورة مسلحة، حرب أهلية. ما الذي يجعل التوصيف صعباً ومعقداً من وجهة نظرك؟ وكيف تلخّصه لمن يحاول أن يفهم؟

* في تقديري أن تشابك البدايات وتعددها، مع الادعاءات الملتبسة للطرفين، وكذلك تقاطع مصالح الناظرين وتعارضها، هو ما يخلق توصيفات عديدة. فما يحدد توصيفك هو أولاً "من أين تنظر لبداية ما يحدث اليوم"، و"من أنت". في رأيي أن البداية هي مع تكوين "قوات الدعم السريع"، سواء بدايتها الفعلية في 2003 كميليشيا رديفة للجيش تعمل في منطقة دارفور، أو في العام 2017 عندما أصبح لها قانون برلماني جعلها قوات موزاية للجيش تتبع مباشرة لسلطة الرئيس الأسبق عمر البشير، ولا تخضع لسلطة قائد الجيش مثل سائر الوحدات. ثم في إبريل 2019 أصبح قائد "الدعم السريع" نائباً لرئيس المجلس العسكري الحاكم بعد إسقاط نظام البشير، وتمت ترقيته من الفريق أول عبدالفتاح البرهان، قائد الجيش ورئيس المجلس العسكري، إلى رتبة فريق أول. وتمتع باستقلالية أكبر لقواته في وقت حلفه هذا مع قائد الجيش.
من هنا يمكن رصد العلاقة التالية بين الرجلين والقوتين، تحالفاً وصعوداً وهبوطاً، حتى وصلا لمرحلة الاقتتال بينهما. فبالنسبة لي، هي "صراع مسلح" بين قوتين تطمح كل منهما في الانفراد بالسلطة.

خلال أحداث الثورة السودانية، كنتَ متفائلاً بشكل ربما أثار استغراب المحيطين بك. حالياً، ما السيناريوهات المتوقعة للأحداث الجارية؟ هل مازلت متفائلاً؟

* كنت متفائلاً دائماً بمقدرة الشعب السوداني على التزام السِّلمية في مواجهة القمع. ورغم تخوفي أحياناً من أن ينجح القمع في كسر همة الناس، فيتراجعون عن مطالبهم، إلا أن العزيمة المتجددة ظلت تنفخ الروح في تفاؤلي. لقد استمرت الثورة أربع سنوات، من دون أن يحمل الشعب السلاح للدفاع عن نفسه، ومن دون أن ينقلب على نفسه ويندم ويرفض الثورة. حتى مع تراجع كثافة المواكب السلمية بسبب القمع المفرط، ظل المواطنون يرفضون الحكم العسكري وينتظرون الوصول إلى حكم مدني انتقالي. الآن، هناك واقع جديد يتشكّل. إنها حرب كاملة. وهي حرب تفتح الباب للاقتتال الأهلي في بلد هو هش منذ عقود. كما أن المنتصر في الحرب سيحكم وفق شرعية انتصاره. لن تكون شرعيته هي الثورة أو ما يريد الناس. سيكون قائداً وصل للحكم عبر طريق وعر من الدماء والمعارك. وسيكون انتصاره هو عنوان حكمه. هذا سيجعل أي حديث عن الديموقراطية أو الدولة المدنية أشد صعوبة.

- ما تصورك لحلول الخروج من هذا المأزق إذاً؟ وهل سيقبل الشعب السوداني بمَن كان سبباً في الأزمة ليكون جزءاً من الحل؟

* الجيش السوداني بشكله الحالي هو جزء من الأزمة. لكن بالطبع لا يمكننا "التخلص" من الجيش السوداني. هو جيش الدولة، مهما كانت مشاكله. لكن يمكننا العمل على إبعاده من السياسة، وإلزامه بدوره المهني، أن تتغير عقيدته السلطوية التي تجعله يغامر دائماً بالانقلابات، وأن يخضع للسلطة المدنية الانتقالية ثم المنتخبة. أما "قوات الدعم السريع"، فهي كيان وجوده خطأ منذ البداية. لقد صنعه عمر البشير لحماية نفسه من الجيش. ويجب أن تستمر الأجندة التي طرحتها القوى السياسية المدنية منذ 2019 بدمج هذه القوات في الجيش، وكذلك قوات حركات الكفاح المسلح التي وقعت اتفاقية سلام، لننهي تماماً مصيبة تعدد الجيوش في السودان وعسكرة الحياة السياسية، ويصبح لدينا جيش واحد مهني. أما كيف يمكن الوصول لذلك والخروج من الأزمة، فإن ذلك يبدأ أولاً بوقف الاقتتال، وقبول الطرفين المتحاربين بالجلوس إلى طاولة التفاوض. ما ينتج عن التفاوض سيُنظر فيه لاحقاً. يمكننا أن نقيّم النتيجة سلباً أو ايجاباً. لكن البداية المهمة هي وقف الحرب.

قلتَ من قبل إنه ليس من أدوار المثقف، مواجهة السلطة السياسية، وأن دوره الأساسي مواجهة القبح ونشر الجمال. هل اختلف دور المثقف الآن بعدما أصبح الجميع متورطاً في السياسية بشكل أو بآخر؟ في الموقف الحالي، ما هو دور المثقف وأي جمال يمكن أن يبشر به في أزمة بهذا التعقيد؟

* أعتقد أن ما قلته، ومازلت أقوله، أن دور المثقف هو مواجهة السلطة دوماً، كل سلطة. سياسية أو مجتمعية أو غير ذلك. لكن مواجهة السلطة لا تكون بالضرورة عبر العمل السياسي، إنما هي جزء من مشروع المثقف الكلّي بمواجهة القبح والتزامه بنشر الجمال. فهو لا يواجه السلطة السياسية لأنه سياسي. إنما لالتزامه بمشروعه الجمالي. ولا أعتقد أن دور المثقف اختلف الآن. كما لم يختلف دور المثقفين الفلسطينيين الملتزمين تجاه قضايا بلادهم، أو العراقيين، أو السوريين. فوسط كل المآسي والخراب والسياسة القاطعة للرقاب، يظل للمثقف دور يجب أن يؤديه ولا يستطيع تجاهله. أو كما قالت الروائية إليف شافاق "في بلدان مثل بلداننا ليس للكاتب ترف ألا ينشغل بالسياسة".

بالمناسبة، السياسة ليست بعيدة من أعمالك، والحقيقة إنك تنجح دائماً في الحفاظ على الحس الروائي من دون الوقوع في فخ الدرس التاريخي أو السياسي.. وفي ما يخص الجدل حول ما يسمى القضايا الكبرى، مقابل الحكاية الذاتية أو الشخصية، فأعمالك تقول أنك تنحاز إلى الأخيرة، أو ربما تنحاز إلى تناول القضايا الكبرى عبر الحكاية الشخصية إن صح التعبير. إلى أي حد تصح هذه الرؤية؟

* أنا منحاز بالتأكيد للحكاية الذاتية، وعبرها أرصد ما يمكن تسميته بالقضايا الكبرى. لأني لا أرى الأفكار بمعزل عن تأثيرها في الناس. لا يهمني كم هي رائعة فلسفتك، إنما يهمني انعكاس تنفيذها في الناس. الإنسان، الفرد، هو ما يهمني.

ربما يكون الحديث عن الكتابة الآن نوعاً من الترف، لكني أسأل استناداً إلى ما قلته والذي يتماس أيضاً مع مقولة عميد الأدب طه حسين عن الأحداث الكبرى: "متى تأثرت حياة الناس فقد تأثرت آدابهم". لكن خلال أحداث الثورات العربية، وربما حتى الآن، مازالت نصيحة التمهل في التعرض لما جرى ويجري قائمة. ورغم ذلك ظهرت الثورات في الكثير من الأعمال، بل مازالت تظهر بأشكال مختلفة. الواضح أنك من أنصار التمهّل في التناول الإبداعي للأحداث الجارية. هل هذا صحيح؟ وكيف رأيت تلك الأعمال؟

* أميل للتمهّل لأني منحاز للفن. الفن من حقه أن يقدم ما يشاء كما يشاء. لكني أظن في فترة آثار الثورات العربية، والأحداث الكبرى عموماً، سيكون من الصعوبة أن يعزل الكاتب نفسه عن تأثيرات رأيه وموقفه. يحتاج المرء في تقديري إلى وقت ليصل إلى القدرة على حكاية قصة تنحاز للفن، إن كان يكتب عن أمر مازال متعصباً له. هناك بالتأكيد من ينجحون في ذلك. لكني أفضل أن يكون الكاتب والمتلقي قد غادرا نقطة الـ"مع والضد"، ليتعاملا مع العمل الفني باعتباره فناً فقط، لا مرافعة في قضية.

هل يمكن للأحداث السياسية القاسية أن تؤثر في طريقة التعامل الروائي، أن تتحكم في النوع؟ هل يمكن أن تجعلك تكتب رواية ديستوبيا مثلاً؟

* بالتأكيد الكاتب، مثل القارئ، تؤثر الأحداث في مزاجه. لكن أظنّ عادة في وقت الأحداث السياسية القاسية، يميل الناس إلى أعمال أقل توتراً. مثل الكتابات التاريخية، أو الروحانية، أو أدب المغامرة. الفن يكون في بعض الأحيان عالماً موازياً يهرب إليه الناس. فمن العسير أن يكتب روائي يعيش في واقع مأسوي رواية ديستوبيا. لماذا يفعل ذلكظ يكفي أن يفتح النافذة ليجد الديستوبيا. لكن مَن يكتبون الدستوبيا عادة يكتبونها في أوقات طمأنينة. لأنهم يستشرفون ما بعدها. يعتقدون أن هذا الهدوء لن يستمر طويلاً، فيكتبون عما بعد المحرقة المقبلة.
_______________

حمور زيادة:
كاتب وصحافي سوداني ولد في الخرطوم، السودان، العام 1977. انخرط في العمل الطوعي والمجتمع المدني وعدد من الصحف السودانية. واستقر في القاهرة منذ نحو 10 أعوام. صدرت له: "سيرة أم درمانية" (مجموعة قصصية، 2008)، "الكونج" (رواية، 2010) و"النوم عند قدمي الجبل" (مجموعة قصصية، 2014). فازت روايته الثانية "شوق الدرويش" (2014) بجائزة نجيب محفوظ للأدب وترشحت للجائزة العالمية للرواية العربية العام 2015.

increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها