الأحد 2023/04/30

آخر تحديث: 06:17 (بيروت)

"طفلة الرَّعد" لغادة الخوري..."العجز قرار..والحرية قرار"

الأحد 2023/04/30
"طفلة الرَّعد" لغادة الخوري..."العجز قرار..والحرية قرار"
طفلة الرعد رواية مجتمع وقضيّة
increase حجم الخط decrease
تكره هيلانة الصيف! الصيف يكشفها ويجعلها في مرمى وحوش الألسنة المنطلقة من جحورها لتنمّ وتجرّح و"تُسمِّم الكرامات". وهيلانة ترى نفسها واحدة، وربما الوحيدة، من أصحاب العاهات، من يوم كانت تلميذة، عرضة لتنمّر الناس، وأقلّه لإشفاقهم عليها كلّما جمعتها بهم مناسبة أو حديث. فقد دفعتها سخرية التلاميذ ومواجهتها بهذه "القرّادية" التهكّمية كلّما صادفوها:

"هيلانة التأتوأة... ما في كلمة بتقولا... أأأأأ... ووو... ببببب... هيلانة التأتوأة، ما في كلمة بتقولا...".

دفعتها إلى ترك المدرسة بالرغم من اجتهادها وذكائها وحبّها التعلّم، بحسب أستاذها نبيل، المتحدّث باللغة الفصحى أبداً، والذي أصبح جارهم في ما بعد. كما نفرت من الناس والأقارب، ليس إلا لأنّهم يشفقون عليها أو لأنهم يتأسّفون، كلّما صادفوها بعد فراقٍ طويل، لأنها ما زالت تتكلّم بهذه الطريقة، وحتى من أقاربها، أختها أو زوجها أو أخيها، إذا ما حاولوا مساعدتها بإكمال العبارة التي تعجز هي عن إكمالها بسلاسة النطق الطبيعي. وأكثر من ذلك تنفر حتّى من أشباهها في العاهة: "حتى مَنْ هم مثلي متفوّقون عليّ". فهيلانة مصابة بهذا العسر في النطق، "التأتأة"، وهي تعتبرها عاهة معوّقة جعلتها تكره الصيف، وتحبّ الشتاء الذي يبعدها عن الناس والاختلاط بهم، وارتاحت له كونها في أيّامه تدخل، كما بعض المخلوقات، في حالة خدر تنعزل فيها عن المجتمع وسائر الناس، كما أحبّت الرعد لصوته الذي يطغى على سائر الأصوات، ويُسكِتها.

أمّا هي فقد لازمها ذلك الصوت الداخليّ، وألحّ عليها، لمعرفة سبب عاهتها، هل ولدت كذلك، أم حدث ما عوّق حاسة النطق عندها؟ وفي سعيها إلى  اكتشاف سرّها تتبدّى لها جملة أسرار تحيق بحوادث وقعت في حياة عائلتها أو عائلة بيت حميها، أو في القرية. لماذا زوّجتها أختها فادية من صالح الذي يكبرها بعشرين عاماً، ولماذا رضي صالح بالزواج بها بالرغم من عاهتها. كيف ماتت أمها؟ هل صحيح أنّها قضت غرقاً؟ كيف ماتت ورديّة، شقيقة زوجها صالح؟ هل صحيح أنها ماتت حرقاً؟ وهل لصالح علاقة بموتها؟ لماذا لم يتزوّج أخوها فريد؟ ولماذا يعيش منعزلاً؟ وأي نشاط حزبيّ يقوم به؟

إضافة إلى أسرار عائلتها، هناك أسرار كثيرة في الضيعة تجهلها، ما سرّ الأستاذ نبيل، الذي تزوج بعفاف قبل أن تعنّس؟ وما سرّ أم عادل وأولادها؟ الأخ ألبير وزيارات الناس له في الدير...

ما أمضّها في كلّ ذلك هو أنّ الجميع يتكتّم على هذه الأسرار، ولا يبوح لها بشيء. وحين تصرّ وتلاحق، وتتّصل حتى بالناس المعزولين في القرية، تنكشف لها شيئاً فشيئاً، هذه الأسرار وما وراءها. وشيئاً فشيئاً تبدأ الخروج من خِدرها، الشتويّ والصيفيّ، وتبدأ الاختلاط بالناس كلّما تبيّن لها احترام الناس وتقديرهم لزوجها صالح، وكّلما أثنوا على عملٍ او نشاطٍ قامت به هي نفسها. انفتاح واختلاط إنما بحذر شديد، ودوماً مع الاستعداد للانكماش ضمن قوقعتها كلّما مسّ أحدهم بعاهتها. وفي انفتاحها هذا تبدّى لها صدق زوجها صالح واحترامه إياها، هو الذي كان مُقِلّاً في الكلام معها وفي مشاركتها ما يعرف ممّا وراء الأشياء. كما اكتسبت جرأة متزايدة في مساءلة شقيقها وشقيقتها، وأم عادل وكل من بإمكانه أن يزيل الغموض المحيط بالكثير مما حدث سابقاً. إلا أنّ أحداث القرية، ونشوب الحرب اللبنانيّة، ثمّ اختفاء زوجها صالح، كلّ ذلك جعلها تُقدِم بمزيد من الشجاعة والإصرار، إلى أن تنكشف لها الأسرار واحداً تلو الآخر، وإلى أن تواجه أهل البلدة، في تحدٍّ واضح لجبنهم و"انحطاطهم" وتقف في وجه السلاح بجرأة وشجاعة، وسلاحها المنطق "والحقيقة" التي أطلقت العنان لثورتها، وبالتالي لحنجرتها في نطق فوّار ثائر.

تمسك غادة الخوري في روايتها هذه طفلة الرعد[1] برأس الخيط، راويةً وحيدةً، لتقودنا مع أبطالها في حبكة روائيّة مشوّقة، عبر أزقّة قرية ديرزوفا، داخلة أحياءها وبيوت أهلها، مسلِّطة الضوء على طبيعة حياتهم، وعلاقاتهم الاجتماعيّة، المتَّسِمة بالغموض والالتباس كما في كل القرى، والغارقة في النميمة والبغض والكراهية بالرغم من حيّز ضئيل يجتمعون فيه لاحتفالاتهم المشتركة. وبالطبع كشفت الكاتبة غادة الخوري انتماءاتهم السياسيّة المتعارضة التي أوقعت البلدة في عداوات وانقسامات متجدّدة وهيّأت أهلها، أو بعضهم، لدخول الحرب وهم على مشارفها، وهو ما قد ينعكس على علاقتها بالجوار، وهي البلدة المسيحيّة في محيط إسلاميّ.

ليس موضوع الرواية جديداً، إذ تطرّقت الرواية اللبنانيّة عموماً إلى مسائل المجتمع اللبنانيّ، مدينة وريفاً، وإلى الحرب اللبنانيّة والقضايا التي أدّت إلى انفجارها: الطائفيّة والوجود الفلسطينيّ والانتماء القوميّ أو العربيّ والتمسّك بالهويّة اللبنانيّة وغيرها من القضايا التي ما يزال اللبنانيّون ينقسمون حولها حتى يومنا هذا. أمّا حياة القرية اللبنانيّة وناسها في عاداتهم وتقاليدهم، وفي تعايشهم وتنابذهم، وفي شخصياتها الطريفة أو المميّزة أو الشاذّة، فغني عن القول إنها مواضيع استُنفدت إلى حدٍّ كبير في أدب القرن العشرين، وفي النصف الأوّل منه بنوع خاص. لكن ذلك لا يضير عمل غادة الخوري هذا في شيء. فالروائيّ عموماً يخبر قرّاءه ما يعرفونه أساساً، أمّا ميزته وفنّه فيكمنان في الطريقة التي يصوغ بها عمله ليوصل فكرته إلى القارئ. وهذا ما عملت عليه الكاتبة ضمن الصيغة التي اختارتها لروايتها.

اختارت غادة الخوري لروايتها بنية روائيّة عاديّة تمحورت حول خطّ سرديّ أحادي الوجهة، ولو تخلّل النصّ بعض الاستعادات والاستباقات، تولّت فيه الكاتبة نفسها دور الراوية الوحيدة، لتحكي فيه قصّة بطلتها هيلانة في صراعها مع نفسها وعاهتها، وفي صراعها مع عالمها المحيط بأسراره الغامضة. وقد نجحت في تكثيف حالات الغموض، وفي تشويق القارئ عبر إيقاعٍ سرديّ متباطئ أحياناً، تتوقّف فيه عند وصف الحالات والأماكن والشخصيّات، فتجعل النصّ يتشبَّع منها، قبل أن يتواصل سير الأحداث ليصطدم كلّ مرّة بما يوقف تطوّر العقدة ويؤخِّر انكشاف الأسرار، وقبل أن يصيب القارئ مَلَلٌ تتسارع الأحداث في الأقسام الأخيرة لتصل به سريعاً إلى الحالات النهائيّة التي بات متشوّقاً للاطّلاع عليها.

بذلك يكون التشويق قد بلغ مداه وجذب القارئ إلى مواصلة القراءة، خصوصاً أنّ الكاتبة اعتمدت أسلوباً سرديّا بسيطاً في لغة متينة متماسكة، تخلّلته بعض الصور الفنّية في الوصف والتمثيل، من دون إفراط أو تصنّع يُثقِل على لغة السرد. كما لعبت الحوارات دوراً أساسيّاً في التنويع، كما في تصوير هيلانة متأتئةً في كلامها، وإن كانت هنا، في رأيي، قد أهملت جانباً تقنيّاً مهمّاً. ففي الكثير من الأحيان نجد هيلانة تبدأ الكلام بطلاقة، من دون توقّف (وطبعاً هذه حاجة تقنيّة كتابيّة ضروريّة، فليس معقولاً أن تنقل الكاتبة كل كلامها في الحوارات بشكل التأتأة...) ثمّ، وكأنّما بعد التنبّه إلى ذلك، أو في حالة انفعال البطلة، تعود إلى التأتأة. فلو سيطرت التأتأة دوماً في بداية كلامها لتتابع بعدها بشكل طبيعي لكان ذلك أفضل، ولكان لانفكاك عقدة لسانها في نهاية الرواية وقعٌ فنّيّ ودلاليّ أهمّ. لأننا في الكثير من الأحيان، في الفصول الأخيرة، مع تطوّر شخصيّة هيلانة وتزايد جرأتها، وانكشاف بعض الأسرار لها، يخيّل إلينا أن عقدتها انفكّت، وإذا بها تعود إلى التأتأة.

لا يفقد هذا شخصية هيلانة في الرواية شيئاً من قيمتها. فقد أجادت غادة الخوري بناء هذه الشخصيّة، وعرفت كيف ترصد انفعالاتها، وتصف حالاتها النفسيّة على الأخصّ. فهيلانة في الرواية نموذج الفتاة-المرأة المتعرّضة لسخرية المجتمع وتنمّره كما ذكرنا، وقد وجدت نفسها وحيدة في مواجهة هذا المجتمع القاسي، كما هو في الحقيقة، أو كما يتهيّأ لصاحب العاهة في خوفه وتردّده. وهي إذ تقرّر الخروج من قوقعتها والمواجهة تبرز كامرأة تصنع من الضعف قوّةً، وكشخصيّة مثقّفة، تطالع وتقرأ وتسمع، بالرغم من أنها لم تكمل علمها. وقد يتهيّأ للقارئ أنّ ذلك يتناقض مع ما يبدو عندها من سذاجة وبساطة في التفكير، عندما تتعلّق الأمور بمسائل المجتمع ومشاكل الضيعة والعلاقات الاجتماعيّة. فهي من ناحية مطّلعة وصاحبة تفكير منطقيّ وواعٍ، ومن ناحية أخرى جاهلة في الكثير من الأمور بسبب انكماشها وابتعادها زمناً طويلاً، منذ طفولتها، عن المجتمع. وبالتأكيد، ليست هذه حالة مستغربة في المجتمعات، فكم من أناس متعلّمين ومثقّفين وبارعين في مهنهم، نجدهم، بسبب انهمماكهم في أعمالهم وابتعادهم عن حياة المجتمع، سذّجاً أو بسطاء أو حتى أغبياء أحياناً في التعاطي مع الشؤون الاجتماعيّة! فهيلانة إذن شكّلت في بيئتها حالة مختلفة، غريبة ربّما، لكنّها غير مُستغرَبة، وهي طبيعيّة وواقعيّة إلى حدٍّ كبير.

وكما في حالة هيلانة عرفت غادة الخوري كيف تبني سائر الشخصيّات في روايتها، من صالح زوج هيلانة، الفلاح المتعلّق بالأرض يتعامل معها "بقدسيّة" الحريص على حمايتها من كلّ موادّ غريبة عنها، وهو في الوقت نفسه الشخصيّة الاجتماعيّة المحترمة في القرية، بفعل مشاركته الفعّالة في الملمّات، وهو الزوج الهادئ والرصين الذي يغمر عيلته بالحبّ والاحترام، وزوجته بالتقدير حتى وإن لم يعبر عن ذلك صراحة.

أما الشخصيّة الطريفة جدّاً التي وُفِقت الكاتبة إلى تصويرها، فهي فادية شقيقة هيلانة، المتزوّجة والقاطنة في بيروت، والمتميّزة بتحرّرها وصراحتها وجرأتها في التعبير عن مواقفها، وإن لعبت، في سياق الرواية، دوراً سلبيّاً في التأثير على شخصيّة أختها هيلانة (وهذا طبعاً من وجهة نظر هذه الأخيرة كما يتبدّى لنا من الحوارات). ناهيك من سائر الشخصيّات الثانويّة، مثل الأستاذ نبيل، وعفاف زوجته وفريد شقيق هيلانة الحزبيّ القوميّ، وأم عادل وأولادها...

عبر هذه الشخصيّات وبها، شكّلت الكاتبة أحياناً لوحات وصفيّة أو حواريّة جميلة ولافتة، مثل مشهد الاحتفالات بعيد السيّدة، أو مشهد تعاون أهل البلدة على إطفاء الحريق في الحرش، أو مشهد التفتيش عن صالح عندما يختفي أثره،  والمشهد الأخير في ساحة القرية حين تتصدّى هيلانة للميليشيوي الذي يستعرض مراجله على النساء. أما المشهد اللافت والجميل فهو ذاك المشهد الحواري بين الأخوة الثلاثة، هيلانة وفريد وفادية، حول مسائل العائلة وعلاقة الرجال بالنساء والسياسة وغيرها. مشهد فيه من العفوية والصدق في التعبير والطبعيّة والفكاهة، هذا الإضحاك الذي يخفف من وطأة الجو المأساوي الضاغط في سياق القصة. وهذا المشهد الحواري الضاحك، يتناقض مع ما بعده عندما يستكملون الحديث وصولاً إلى حادثة احتراق ورديّة، حيث ينقلب الجو إلى ريبة في نفس هيلانة، وضيق وخوف وحزن. ولا بدّ هنا من الإشارة إلى براعة فعلية عند الكاتبة في الإضحاك عبر السّرد أو الحوار في مواقع كثيرة من الرواية، وربّما تكون هذه ميزة تفتقر إليها الرواية العربيّة، إذ ليس من السهل أبداً إضحاك القارئ، أو المشاهد، بطريقة لبقة وعفوية وطبيعيّة مقنعة كما نلحظ هنا.

طفلة الرعد رواية مجتمع وقضيّة، قضيّة المجتمع اللبناني الضائع بين المعتقدات والأوهام، المنساق لعصبيّته وجهله، والمحتاج إلى ثورة على الذات، تًميت وتُحيي، كما حدث لهيلانة في ساحة القرية حين تصدَّت لبيار المسلَّح و"رأت موتها وولادتها في معركة حاسمة". يومها انطلق صوتها المكتوم لينتصر على عجزها: ما لقيت إلا صوتي لمّا الكلّ سكت"، حين لم تجد بين الرجال رجالاً، ما يذكّرها ببطلة قصيدة خليل مطران مقتل بزرجمهر وعبارتها الشهيرة:

"ما كانت الحسناء ترفع سترها     لو أنّ في هذي الجموع رجالا".

إذا كان من خلاص لهذا الوطن، فلا بدّ لأبنائه من قرار جريء يتّخذونه كما فعلت هيلانة التي قرّرت الخروج من عجزها بقرار، بعد أن حبست نفسها فيه عمراً  بقرار: "العجز قرار، والحرّية قرار". وعندما "قرّرت" خرج صوتها مدوّياً كرعدٍ جديد يتردّد صداه في ديرزوفا، ليقتل الوحش الذي ربّته في نفسها وكاد يقتلها، هذا الوحش وليد الجهل الذي سطا على الحقيقة التي بها نقوى ونخلص عندما نعيها: "نحن أعداء أنفسنا، والسبب الأوّل في شقائنا. الجهل شقاء (...)، وحده الوعي بوّابة الخلاص".  



[1] . غادة الخوري، طفلة الرعد، دار الآداب، بيروت، 2023.

increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها