الجمعة 2023/04/28

آخر تحديث: 13:49 (بيروت)

عن أيِّ شيءٍ نَبْحث؟

الجمعة 2023/04/28
عن أيِّ شيءٍ نَبْحث؟
increase حجم الخط decrease
أذكُرُ من أيّامِ إقامتي الدراسيّةِ في باريس (في أواسطِ الستّيناتِ من القرنِ الماضي) شعوراً بالدهشةِ استولى عليَّ حين اكتشفتُ أنّ طالباً لبنانيّاً قد اختارَ موضوعاً لأطروحةٍ يُعِدّها "نظامَ النقلِ العامِّ في مدينةِ تور"، وهذه مدينةٌ متوسّطةٌ من مدنِ الغربِ الفرنسيّ. وكان لدهشتي مداران: الأوّلُ أن يٌعْرِضَ اللبنانيّ عمّا تقترحه عليه بلاده (أو يقترحُه محيطُها الذي تنتمي إليه) من موضوعاتٍ ليختار موضوعاً فرنسيّاً. والثاني أن يكون الموضوعُ الفرنسيّ فرنسيّاً إلى هذا الحدِّ فلا يمسَّ بخيرٍ ولا بِشَرٍّ بلادَ الطالبِ ولا أهلها. وقد زادَ من بغتتي حيالَ هذا الموقفِ أنّني كنتُ أبحثُ، أنا أيضاً، عن موضوعٍ لأطروحةٍ لم أكنْ أتخيّلٌها، في تلك الأيّامِ، إلّا مغمورةً بهَمِّ تغييرٍ كاسحٍ يشتملُ بلا ريبٍ على أوضاعِ لبنان ولكن يتجاوزه إلى أصقاعٍ أخرى قريبةٍ وبعيدة...


بعد هذه الواقعةِ بأعوامٍ كثيرةٍ، استوقفني مَلِيّاً أن تختارَ شابّةٌ هولنديّةُ المنشأِ موضوعاً لبحثٍ أعدّته قريةً في لبنان تدعى شبريحا تقعُ على مقربةٍ من مدينة صور ويعمرها فلسطينيّون تمكّن كثيرٌ منهم من الحصولِ على الجنسيّةِ اللبنانيّةِ، في غمرةِ حملةِ التجنيسِ التي شهدَتْها غدواتُ الحربِ اللبنانيّةِ أو قَبْلَ ذلك في بعضِ الحالاتِ، وذلك لكونِ قريتِهِم الجليليّةِ الأصليّةِ (وتدعى صَلْحا) هي إحدى "القرى السبعِ" المقتطعةِ من جبلِ عاملٍ، أي من قضاءي صور ومرجعيون العثمانيّين، لتُضَمَّ إلى فلسطين غداةَ إنشاءِ "لبنان الكبير"، وذلك في تعديلٍ للحدودِ شاءَه الانتدابان الفرنسيُّ والبريطانيّ. هؤلاء يقتسمونَ القريةَ مع فلسطينيّينَ آخَرينَ من أصولٍ بدويّة. تركت نورا ستيل (هذا هو اسمها) بلادَها العامرةَ – بل قارّتها بأسرِها – لتنكبَّ على دراسةِ شبريحا... شبريحا التائهةِ عن أيّةِ خريطةٍ نفترضها لهمومِ الخالقِ وملائكته... وهي قد اختارت لبحثها زاويةَ العلاقةِ بين المرجعيّاتِ الفلسطينيّةِ في القريةِ وبين السلطاتِ اللبنانيّةِ المحلّيّة.

والحالُ أنّه إذا كانت دهشتي للواقعةِ الأولى (المتعلّقةِ بـ"تور") سليمةً من كلِّ زغلٍ فإنّ دهشتي للثانيةِ (المتعلْقةِ بشَبْريحا) أو لبعضِ وجوهِها أتت غيرَ خاليةٍ من الافتعال. كان في هذا الإخراجِ لشبريحا الضئيلةِ بالذات من عتمةِ التجاهلِ ما يفاجئُ حقّاً. ولكنّ إقبالَ باحثةٍ في مطلعِ سيرتها العلميّةِ على موضوعٍ تلفّه العتمةُ ههنا بين ظهرانينا ولا تصلُه بمنشإ الباحثةِ وهمومِه أدنى صلةٍ كان أمراً أعرِفُ له أمثلةً كثيرةً فلا أجدُ في حصولِه مرّةً أخرى ما يدهش. بل إنّ التنزّهَ في موقعِ "أكاديميا" الشاسعِ لم يلبثْ أن أوقفني على ما يتجاوزُ ما حوَتْهُ ذاكرتي من هذا القبيلِ بما لا يقاس. فقد أفادني البحثُ أنّ في الموقعِ المُشارِ إليه ألوفاً كثيرةً من الأعمالِ موضوعٌها لبنان: تاريخاً ومجتمعاً وسياسة! وهو ما يقتضي تصفّحه أٓزْيـدـ من عُمْرٍ واحدٍ من القارئ المُجِدّ. وهو أيضاً ما يُفيدُ التقليبُ العشوائيُّ لصفحاتٍ من لوائحِ عناوينِه أنّ شطراً معتبراً جدّاً من أصحابِه (إن لم يكن معظمهُم) ليسوا من أهل الدار بل هم من هؤلاءِ "الغربيّين" الذين يشتَمِلُ فضولُهم، شأن فضولِ نورا ستيل، على أيّ شَيْءٍ من كلّ شيء... هذا، بطبيعةِ الحالِ، حينَ تكون الأعمالُ المستطلعةُ موضوعةً باللغاتِ الأوروبيّة...


أعلَمُ، من بَعْدُ، أنّنا ندلي، من جهتِنا، بكلامٍ  كثيرٍ مدارُه دولُ "الغربِ" تلك أو "الغربُ" بلا تمييزٍ بينَ الدٌوَلِ أو المجتمعات. نحْنُ أبْعَدٌ ما نكونُ عن الاعتِصامِ بالصَمْتِ في هذه الوجهة! ويكون الباعثُ إلى الكلامِ المُشارِ إليهِ عادةً ما نعْلَمٌه (أو نتوهّمٌه) من تأثيرٍ ماضٍ أو حاضرٍ أو متوقْعٍ لأفعالِ تلك الدول في أحوالِنا. هذا يثمرُ كلاماً سياسيّاً، في الأغلبِ، ولكنّ المثولَ اللجوجَ لمسألتَي "الحداثةِ" و"السيطرةِ"، على اختلافِ ضروبِهِما والأبوابِ، كثيراً ما يجعلُ الحديثَ يفيضُ عن الدائرةِ السياسيّةِ تلك ليُلِمَّ بأطرافٍ ووجوهٍ من تاريخِ العلاقاتِ المضطربِ ومن المواجهةِ الحضاريّة. في كلّ حالٍ، لا نغادرُ أنفُسَنا إلَيْ"هِمْ" فعلاً وإنّما نلبثُ مشدودينَ إليهِم في اشتباكٍ لا نَجِدُ منه فكاكاً إذ لا يتيحُ منطلقٌنا إلى تناولِ أحوالِ"هِمْ" وأوضاعِ"هِمْ" مثلَ هذا الفكاك.

في أصلِ هذا التعذّرِ، من جانبِنا، أنّ ادّعاءَ "العالَميّةِ"، بمعنى القولِ بوحدةٍ للعالَمِ قابلةٍ لأن يحاطَ بها، في ما يتعدّى الكسورَ ووجوهَ التناقضِ، لم يصدُر عن مخاضٍ عانيناه ومَنَحْنا استيلادَه ما يقتضيه من مدىً واختبارٍ تاريخيّين. وإنّما كان من الهزيمةِ الحضاريّة بما أورثتهُ من غلبةٍ علينا أن احتجزٓت عالَمَنا في صورةِ الانشقاقِ والتغايرِ والمغالبة. وهذا في حينٍ كان فيه الغالبُ قد تسرّبَ إلى نفوسِنا ووجوهِ عمرانِنا ومعاشِنا من شقوقٍ لا تُحْصى.

من الجهةِ الأخرى، لا نرمي من الإشارةِ إلى بقاءِ "العالَميّةِ" في الشطرِ الذي وُلدَ فيه تصوّرُ "العالَمِ"، بما هو واحدٌ في ما يتعدّى انقسامَه، و"الإنسانِ"، بما هو متعالٍ على الفوارقِ بينَ فئاته، إلى القولِ بأنّ هذه "العالَميّةَ" خلت من الشعورِ بالتفاوتِ والتفوّقِ من جانبِ مجترحيها ولا بأنّ المعرفةَ المستظلّةَ بها قد خلت من نوازعِ الإخضاعِ والاستغلال. ليس هذا مرادُنا البتّةَ. ولكنّ وجهَ القوّةِ الأبرزَ لهذه "العالَميّةِ" أنّها لا تُرَدُّ إلى ذاك الشعورِ وتلك النوازعِ بل هي تفيضُ عنهما من كلّ جانب. تفيضُ لتستوي معارفَ "مجرّدةً" بمعنى كونِها مبذولةً لمن يريدُ استثمارَها ويقوى عليه وبمعنى استواءِ تحصيلِها نفْسِه مِراناً للمحصِّلِ وبناءً لشخصِه وقوّةً له بقطعِ النظرِ عمّا تنتهي إليه المعارفُ نفسها في السوق المفتوحة.   

هذا الفائضُ الذي تنطوي عليه المعارفُ المنتَجةُ عن أغراضِ الدُوَلِ وخططِ السياسةِ هو ما ننحو كثيراً إلى إنكاره، في حمّى سجالٍ قلّما تغادرنا أو نغادرها. نٌنْكِرُه فيرتـدُّ نقدُ الاستشراقِ، مثالاً لا حصْراً، إلى ضَررٍ يكسِفُ ما له من ضرورةٍ وما لبعضِه من وجاهة. يوقعُ بنا إنكارُ هذا الفائضِ الجسيمِ أفدحَ الضررِ إذ ينتصبُ سَدّاً "نفسيّاً" بيننا وبين تمثّلِه حقَّ التمثُّلِ، بما هو تمثّلٌ للـ"عالَميّةِ" التي أثمرَتْه. وهذا في ما يتعدّى حالاتِ التقبّلِ "الضمنيِّ" أو تقبُّلِ "المغلوبِ على أمرِه" أو الإقرارِ بالضرورةِ الموضعيّةِ وإبطانِ الرفضِ للشروطِ العامّةِ، وهي حالاتٌ لا تُحْصى.

من هذا الإنكارِ الذي يلجمُ إقبالَنا على دراسةِ مجتمعاتِ "الآخَرِ" وأحوالِه بلا قيدٍ على موضوعاتِ البحثِ ولااستثناءٍ منها، ينْجُمُ ما سمّيتُه ذاتَ مرّةٍ "أَسْرَ الموقع". ومعناهُ أنّنا باقونَ حيثُ نحْنُ، لا نغادرُ أنفُسَنا إلى أيِّ موضوع. وهذا – ولا رَيْبَ – ضعفٌ مقيمٌ ونكوصٌ عن أنواعٍ من المعرفةِ هي القوّةُ عينُها ما دامَ أنّ القوْةَ هي المبتغى المٌعْلَن.

increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها