الأربعاء 2023/04/26

آخر تحديث: 13:26 (بيروت)

الرابرجية السوريون... سادة الهامش ومحاربو الظلال

الأربعاء 2023/04/26
increase حجم الخط decrease
كأي ظاهرة انتقلت من الفضاءات الغربية إلى الثقافات الأخرى، ظهر فن الراب (RAP) في المنطقة العربية، وتطور في كل مجتمع محلي على طريقة أهله، حافظ على بنيته الأساسية ذاتها بوصفه إيقاعا وشعراً، كما أصل اسمه المختصر القادم من جملة " Rhythm And Poetry" لكن مواضيعه تبيّئت بعدما تعددت وتوسعت.

وبالنظر إلى أن أجيال ما قبل الألفية، وقفت عند حدود ما أحبته من المنتجات الثقافية والفنية الغربية، وما ارتبط بسياقات أدبية ذات مضامين أيديولوجية إلى حد كبير، يمكن التأكد من أن تلك التي تعتبر ابنة اللحظة والتاريخ الراهن لم تستخدم المكابح أبداً في تعاطيها وهضمها لما تصدره الأجيال الموازية حول العالم.


(أني - إباء منذر)

وقد جاءت ثورات الربيع العربي في هذا الدرب، لتقوم بدور الرافعة للراب وللرابرجية لا سيما أن الحافة التي وصل إليها بعض هؤلاء قبل لحظة التفجر، كانت تدعو بشكل صريح وواضح للثورة وإعلان الموقف، كما في أغنية المصري الراحل رامي دنجوان ضد الحكومة، التي انتشرت قبل اندلاع الثورة المصرية بشهر تقريباً.

أصوات الراب وبعد دخول الثورات مخاضاتها الدموية، لن تعود مجرد محاولات فنية وأحلام تراود المراهقين، بل ستتحول إلى جزء من السياق، حيث لا مجال للحيادية أو الافتراق عن الواقع. إذ إن طبيعة هذا الفن تفسح المجال، من خلال تضاعيف أنواعه، لأن يخوض فيها أصحاب الخطابات كافة، فهي تحتمل الصراعات والمجابهات من خلال النقائض والهجاء، وطرح الأسئلة الخاصة والغريبة، والتصريح الفاقع عن كل الممنوع، وغير ذلك.


(جندي مجهول)

في سوريا، لن تبرز ظاهرة الراب في الواجهة، بل ستعمّر دولتها واسعة الأرجاء بعيداً من اهتمام النخب، وتكاد بعد كل هذا الوقت تكون متخفية، مكتفية بذاتها، مقتنعة بأن التهميش، بوصفه ملمحاً أصيلاً في سياسات النظام الأسدي، سيتكرر في فضاء المعارضة الرسمية ولن يستطيع الرابرجية أن يقتحموا بفنونهم وجنونهم الشاشات وأثير الإذاعات، بل سيبقون في دوائر تلقيهم الصغيرة لكنهم، وكما يقال، سيكونون الملوك فيها!

لا يلحظ الوسط الثقافي والأدبي السوري على العموم وجود قارة من الرابرجية السوريين، بل إن المفهوم بذاته، ورغم ما أصابه من تطور في العالم وفي المنطقة العربية، مازال ضبابياً هنا. وبالتالي، فإن التعاطي معه من قبل شرائح المثقفين والنقاد لن يكون أمراً هيناً، فهؤلاء على العموم قد لا يستطيعون فهم طبيعة الراب. فلا هو شِعر، ولا هو غناء، وفق ما يعرفونه، بالإضافة إلى أن الليونة اللغوية والقدرة على الدمج بين اللغة الفصحى وبين الأخرى العامّية، يجعل المادة الناتجة أقرب للهجين المنفّر غير القابل للتصنيف، بالتوازي مع القدرة على مزج المتناقضات وصبّها في مدة زمنية محدودة، وكل هذا يؤدي إلى نوع من المباغتة للمتلقي التقليدي، الذي ما زال يحاول تفسير قدرة القدود الحلبية على شدّه وإطرابه رغم عمرها المديد!  


(هيتمان والمعتقل)

كما أن حرص الموسيقيين والمغنين المعروفين على عدم مقاربة الراب في منتجاتهم، يعزز عزلة هذا الكائن الفني، الذي وُجد في بيئة تعاني أصلاً مشكلة في تحديد الماهيات، بعد مرحلة طويلة من التعمية العامة التي أنتجها التسلط الأيديولوجي على النتاج الثقافي والفني!

هنا لا بد من التذكير بأن ظواهر أدبية باتت راسخة نسبياً الآن، قد عانت في لحظة ولادتها في البيئة المحلية أو الإقليمية من مشكلة فهمها واستيعابها أيضاً. فمَن كان يتقبّل فكرة النص المفتوح، وقبل ذلك قصيدة النثر، خلال العقود الثلاثة الأخيرة من القرن العشرين؟ ألسنا، حتى الآن، نتعثر بين الحين والآخر بمن يشيّطن الاجتهاد في البنى الأدبية ويرى بأن مفهوم التثاقف ذاته، بوصفه بوابة تلاقح معرفي وحضاري، هو فعل مؤامراتي يستهدف الثقافة العربية؟!

مشكلة الجهل، أو لنقُل عدم المعرفة، والتي تتحوّل إلى تجاهل متعمد بسبب عدم الرغبة في الاقتراب، وهي المقاربة التي تمارسها النُخب السورية مع جموع الرابرجية بعدما بات إحصاء أعدادهم صعباً جداً، ستتحول مع الوقت إلى ما يشبه القاعدة المتفق عليها في التعامل البيني. فسوى قلّة من هؤلاء تعمل على تسويق منتجاتها بطريقة احترافية، ستحافظ البقية على عوالمها المحدودة، وكأنها جزء من تكوين شخصياتهم، التي ستجتهد أكثر فأكثر في المنحى اللغوي!


(هبة وراما في مخيم الزعتري)

"الكلمات.. الكلمات.. الكلمات" سيكرر القائم على منصة BIGGWEST للموسيقا البديلة محاولاً تحديد مشكلة "الجماعة" السورية. فالكلمات هي ميزتها الأساسية، لكنها مشكلتها التي تعيق انتشارها في فضاء تسويقي أساسي هو الخليج العربي. كما أن هؤلاء الأفراد لا يشتغلون على الانتشار في منصات الراب المهمة في موقع "يوتيوب"، بل ربما ترضيهم مئات "اللايكات" وإعادة النشر في "فايسبوك"، وقد تشعرهم أرقام المستمعين المتصاعدة في منصة "ساوندكلاود" بالأهمية حين يؤخذ بعين الاعتبار كونها نخبوية تخصصية.

قد تكون هذه مشكلة المستجدين، لكنها حين تكون صفة راسخة لدى "المحترفين" فإنه من الواجب دراسة النمط السلوكي، والعوامل المؤدية له. وهنا سيواجه الباحث مشكلة التوسع الهائل في عالم الرابرجية السوريين، والذين لا يجمع بينهم فعلياً سوى اشتغالهم على هذا النوع الفني بينما سيعيشون في الحقيقة المشكلات السورية ذاتها. فعلى سطح الانقسام المجتمعي الذي خلفته حرب النظام على الثائرين، والموقف منها، سيظهر عدد كبير جداً من شباب الراب الذين سيصرحون بمواقفهم، وسيفضحون في أغنياتهم وقائع المآسي والمجازر التي ارتكبت بحق السوريين، وفي المقابل لن نعدم وجود رابرجية يعلنون أنفسهم بأسماء الفروع الأمنية والشبيحة وجيش النظام أيضاً!

وفي الواجهة الرئيسية للمشهد سنرى المساجلات التي تجري بين هؤلاء وبين الرابرجية الثائرين، وأيضاً سيتعاطف المستمع أو المتابع على العموم مع الرابرجي أمير المُعري الذي يعمل في مدينة إدلب أي في "المُحرَّر"، بحسب التسمية الشائعة ويغني عن كل الجبهات، والذي يواجه الواقع المتردي وسلطات الأمر الواقع.


(شريف في ألمانيا)

وأيضاً سيكون من المهم متابعة تجربة الأختين هبة وراما، المُقيمتَين في مخيم الزعتري في الأردن وتقومان بكتابة وتلحين ما تريدان إيصاله للجمهور! وسيظهر هذا الفن الجوانب المخفية من شعور المضطهدين بالعزلة، وستشكل تجربة الرابرجي الكردي شريف (شورش) في ألمانيا أنموذجاً عن هذا المنحى. وفي الطبقة الأعمق من الصراع المعروف والواضح، سيسرب آخرون مضامين مختلفة لا يمكن تجاهلها كأغنية الرابرجي السجين السابق ليل عن المعتقل!

على مدى السنوات الست الأخيرة، لن يعجز المرء عن العثور على فيديوهات منشورة في "يوتيوب"، مصنوعة لتقييم أهم الرابرجية السوريين. وسيكون من الطبيعي أن تتكرر أسماء صارت حاضرة مثل بو كلثوم، وهيت مان، وأنس العربي، واسماعيل تمر، ومودي العربي، وفولكينو، وإبراهيم باشا، وسام تيكت، لاجئين الراب، البصمة العربية، Logo Thug، تي أم إكس طروك، زئبق، دال كاف، عبد الرحمن العربي، عبيدة، نارولز، الدرويش، الجندي المجهول، وغيرهم.

لكن في المقابل، ورغم سلبية قلة عدد النساء المشاركات في هذا الفن، يُفضي البحث إلى عشرات الأسماء الأخرى التي تعطي للتنوع معناه، إذ يحاول أصحابها إضافة لمساتهم الخاصة من دون تكرار المحتوى، وبالابتعاد عن الأنماط المهيمنة، كما نلحظ لدى الرابرجي ابن حواري الذي يجتهد في دمج التاريخي مع مفارقات اليومي كما في أغنيته كامل أمين ثابت (اسم الجاسوس الإسرائيلي إيلي كوهين حينما عمل في سوريا وألقي القبض عليه)، إضافة إلى والرابرجية الجولانية أني (إباء منذر) التي تدمج تراث جبل العرب في الجنوب السوري مع الراب بطريقة لافتة كما في أغنية كونياك!

يحتاج المرء حقاً للوقت للتأمل في المشهد الكامل، لكنه لن يحتاج له كي يخرج بنتيجة تقول إن عالماً آخر مختلفاً، تحتويه الزواريب والحارات الخلفية في حي الراب السوري الكبير.

increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها