السبت 2023/04/22

آخر تحديث: 13:09 (بيروت)

كوميديا الانتصارات الإلهية

السبت 2023/04/22
كوميديا الانتصارات الإلهية
دانتي في مرآتي
increase حجم الخط decrease
(*) كانت أصداء الأصوات المنطلقة من مكبّرات الصوت، والتي تمجّد الإنتصارات الإلهية، تخلخل جدران غرفتي... وكنت كأني مغبة زلزال عطس في باطن الأرض.

غالباً ما أظنّ أن روحي قد تكيّفتْ مع كل هذه الأمور، بيد أني أرى نفسي كل مرة، بمنأى عن كل ضروب التكيّف أو مماشاة هذا الجحيم.

كثيرة هي الأسماء التي يقتات عليها ذهني لدى سَوْق دانتي، لي، في متاهات كوميدياه الإلهية، لا سيما متاهات فصل Inferno أي ما يُعرف بالجحيم الذي قرأته مرات عديدة، شأن كل البشر الذين تنكبوا عناء ولوج عالم دانتي. فالجحيم مُغرٍ، ومُغرٍ أكثر ذلك الإنصات إلى من زاره بنفسه.

يخبرنا أولئك الذين قد تولّوا بثّنا حياة دانتي، إن النساء العجائز كنّ، لدى رؤيتهن لدانتي، يتهامسن بلغة السر عن نار الجحيم التي مسّتْ ملامح وجهه الشاحبة والداكنة، وكان ذلك بعدما نشر كل أخبار الجحيم في تلك الكوميديا التي لا يُسبر لها غور.

بذلتُ جهدي كي أتلافى أخبار الإنتصارات الإلهية التي كان مكبّر الصوت يردفني بها من كل الجهات، وسقتُ نفسي عن قصد صوب دروب كل الناس الذين لطالما أخذوا بيدي في رحلتي داخل متون الكوميديا الإلهية.

صارت الأسماء تتواتر بالتدريج، بدءاً بإيتالو كالفينو طبعاً (من طقوسه اليومية أنه كان يقرأ بعض مقاطع دانتي كل صباح)، ثم بول كلوديل ورينيه جيرار، وغيرهم الكثير، إلى أن استقرّ بثقله فوق كل هؤلاء صديقي الأوفى خورخي لويس بورخيس. فبصراحة القول لا أستطيع أن أنكر أن بورخيس قد أخذ بيدي إبّان ولوجي عالم دانتي، كما أخذ صاحب "الإنياذة"، فرجيل، بيد دانتي لدى ولوجه عالم الجحيم في تلك الكوميديا الإلهية.

في حكيه عن دانتي قال بورخيس: "أن نحب يعني أن نصنع لأنفسنا إلهاً غير معصوم عن الأخطاء"... لا قامة جسدية لي، لا انحناء، لا استقامة، لا تمدّد فوق السرير ولا اقتعاد لذلك الكرسي الخشبي. فما يمدّني به الشارع أودى بي لأن أكون محض كتلة متلقية لأخبار تلك الانتصارات الإلهية، تماماً مثل بعض ناس دانتي في عالم جحيمه، حيث لا خصائص للأعضاء الجسدية إلا بما يتلاءم مع شرط الجحيم.

لطالما آنستُ إلى خاطر مفاده، أن تتسلل يوماً ما خبرية الإله غير المعصوم إلى ناس حارتي والحارات المجاورة... إذ عندها يمتلك المرء جرأة أن يُسائل الرب. رحتُ أتحسس ذاكرتي كمحاولة مني لإلقاء القبض على حدث مغاير لكل ما آلفته هنا منذ عقود وعقود. لكن كلا، إنها الشعارات عينها، مكبرات الصوت عينها، ذلك الصوت عينه، الصور عينها فوق الجدران وتلك الانتصارات الإلهية.

يخبرنا دانتي في "الكوميديا الإلهية" أن من وسائل التعذيب بحق ناس الجحيم، مكابدتهم إلى أبد الآبدين لأمور لا تني تتكرر إلى ما لا نهاية...

خَفُتَ الصوت المنطلق عبر البوق للحظات قلائل، حسبتُ أثناءها أن الصوت سيتلاشى، لكن الصوت عاد ليعمّ الأجواء بزخم يضارع زخمه السابق. تلمّستُ جسدي بكفّي وصولاً إلى أسفل قدميّ ثم هممتُ بالسير خفية نحو نافذة غرفتي. أزحتُ الستارة بما يتلاءم مع الحد الأدنى من الرؤية ليطالعني الشارع بكمّ من الهيئات البشرية التي قد غادرتْ أجسادها. أغمضتُ عينيّ ورحت أتابع أولئك الذين كلّمني عنهم دانتي يوماً في واحد من فصول الجحيم، والذين تمثّلتْ عقوبتهم في عدم القدرة على تملّك المظهر الخارجي لأجسادهم. لم تكن أجساداً بالمرة إنما هياكل سُود، سَواد حتى الحدود الأخيرة للعتمة.

مات دانتي في أيلول1321، أما أنا فمتّ بالأمس واليوم وغداً.

لا أعرف ماذا يعني اسمي بالتحديد أما دانتي، فاسمه يعني "العاطي"، "الواهب"، ومن اشتقاقات الاسم أيضاً ما قد يعني "المُكابد" أو "الصّبور".

كانت الشعارات المنطلقة من داخل البوق، بمنزلة دعوة للحواس للتآلف مع عالم دانتي. جرّبتُ أن أفصل، وبكل مودة، بين "الكوميديا الإلهية" و"الانتصارات الإلهية"، لكن الحيلة أعيتني، لا سيما أن بورخيس كلّمني مرة قائلاً: "إننا نعرف دانتي بحميمية أكثر مما عرفه معاصروه"... نعم، هذا الشعور هو ما كان يلمّ بي في أثناء انسحابي من قرب النافذة وتكتّلي على نفسي فوق السرير كشخص محدد إلى الأبد، تماماً مثل ناس دانتي في جحيمه ذاك.

انخفضَتْ أصوات الأناشيد ثم أخذَتْ بالخفوت بالتدريج، ليعتلي بعدها صوت السيّد كل بروج الأسماع، راسماً عبر صوته الفضفاض خريطة إرادة الله، متوقفاً عند كل تفصيل في هذه الخريطة. تكبتلتُ فوق روحي أكثر، وقررتُ عدم مجادلة دانتي قوله إن ليس لأحد الإدّعاء بمعرفة مقاصد الرب. كان دانتي يردّد هذه العبارة دوماً على مسامع المعترضين على حكم الرب، كونهم في هذه الطبقة من طبقات الجحيم أو تلك... لا أحد يعرف مقاصد الربّ في "الكوميديا الإلهية". أما في كوميديا "الانتصارات الإلهية" فإن مقاصد الربّ واضحة جلية لناظرَي سماحة السيّد... ربما السيّد على صواب ودانتي هو المخطىء!

أشدتُ بنفسي لأني نجحتُ في إقناع بورخيس كي يأخذ بيدي يوماً في الدروب الوعرة للكوميديا الإلهية، لكني دائم الشعور بالخيبة لأني لم أحظ بمن يأخذ بيدي في كوميديا الانتصارات الإلهية. لست، في هذه الحالة الثانية، بحاجة لشخص من لحم ودم، إنما أنا بحاجة ماسة لكائن مكوّن من كلمات. لم يوافِني هذا الكائن بعد، أنا الكاتب العاق الفاشل، والذي أقتات في تدبّر شؤون العالم على محض كلمات غيري، مثل دانتي وبورخيس وما شاكل من مجانين. أنا أريد نصّي الخاص، كلماتي، حروفي، صمتي المدوّن وهذياني الذي أرجوه المكوث فوق بياض الورق.

ينغّص هذا النص المتواري، عَيْشي، وإذا ما قرر أن يفيض إليّ بذاته، تراني بعد قراءتي له، أرميه في سلة المهملات التي صرت أشعر بالخجل إزاءها.

ابتكر دانتي في كوميدياه الإلهية نهراً رائعاً وأطلق عليه الإسم التالي: "إينوي"، أما غاية دانتي من وراء هذا النهر فتتلخص في استعادة المرء، لدى الغطس فيه، كل ذكرياته الجميلة.

أثناء قراءتي "الكوميديا الإلهية"، وقفتُ على ضفة ذلك النهر لساعات وساعات، وقد لازمني شعور حاد بالرغبة في الغطس فيه. لم أنجح يوماً في الغطس في نهر دانتي، بل تراني على الدوام محل تردد وإجفال. استشرتُ بورخيس في هذه المسألة، فأشار عليّ هذا الحكيم بالغطس في نهر آخر يحفر عميقاً في جسد الأسطورة الإغريقية: نهر ليتي. أخبرني بورخيس أن من يغطس في مياه هذا النهر، ينسى كل ما في حياته من ذكريات مؤلمة... فـ"ليتي" هو نهر النسيان.

... عادت نافذة الغرفة تبثني قبلات السيّد.

قلت لبورخيس: الذاكرة في هذه الأنحاء هي الأمس واليوم والغد، ولا جدوى بالتالي من الغطس في أي نهر، ما خلا نهر الغدير الذي يقع على مشارف نواحينا، وهو الوحيد المتبقي لنا.

لا أحبّ كثرة التذمر والنقّ، لكني قلتُ لبورخيس: كل ما يجري هنا لا يمهّد أمام المرء إلا كل دروب الجفاف... لا ماء في هذه الأنحاء.

أخذتْ الجموع بالانفضاض المدروس، فكلّ شيء في هذا المكان مُحكَم التنظيم والإرشاد، شأن الأمور في عالم جحيم دانتي، فحتى المكان ههنا محكوم بكل ضروب الانضباط.

فإذا كان عالم دانتي خاضعاً لنظرية بطليموس في علم الفلك، كما يقول بورخيس، فإن عالم هذه الناحية خاضع بالمطلق لنظرية الانتصارات الإلهية.

راحت الجموع تتبخّر نزولاً، إلا الكلمات التي كان يطلقها مكبّر الصوت، فهي كانت تلاطم موج الهواء صعوداً.

أكثر حظوظ الشيطان قوة، في جحيم دانتي الليغري، تتمثّل في قدرة هذا الشيطان على نزع الكلمات من معانيها... فالشيطان، يقول دانتي، في غاية الدهاء عندما يتعلّق الأمر بموافقة الكلمات للمعاني.

الكذب من أسهل الخطايا لكنه أخطرها، كما يقول صاحب "الكوميديا الإلهية"، وخطورته تكمن في سهولة ارتكابه.

... كان صاحب "الانتصارات الإلهية" ما زال يطلق دفق كلمات انتصاراته على وقع الخلو التدريجي للساحة من ناسها، كان يشيّع الناس عبر هذا الدفق الرجراج.

قررتُ الاختلاء ببورخيس وقد عمّ الصمتُ المكان. إلتفتُّ إلى حيث كان واقفاً بعكازه الخشبي... ليس هنا، لقد رحل.

وددتُ أن أهمس له بسرٍّ لن أدوّنه في هذا النص، كنت بحاجة ماسة للإنصراف إليه بكل كياني، لكن بورخيس غادر.

كان المساء قد ضرب أطنابه وكل شيء اتّشح بالسواد، إلا عبارة كانت تلتمع أمامي، حفَرها بورخيس بإصبعه فوق المرآة التي غالباً ما أتوهم وجودها في غرفتي: "الكوميديا الإلهية، كتاب يجب على كل منا أن يقرأه، وإن لا تفعل ذلك يا ... -وقد دوّن اسمي- فهذا يعني حرمان نفسك من أعظم هِبَة استطاع الأدب تقديمها".

دَنوتُ من المرآة بحذر ورحت أقرأ عبارة بورخيس على نفسي المضطربة. صرت، مع كل كلمة أقرأها، أنزع عني بعض ملابسي إلى أن غدوت عارياً. نزعتُ كل ملابسي بتمهّل، وصولاً لنزع اللحم من فوق عظمي الهش. مع عرائي الذي اكتمل على وقع أناشيد الانتصارات الإلهية التي كانت ما زالت تتردد داخل ذهني، راحت مرآتي تلك تبثّني مطالع مقطع الجحيم في كتاب "الكوميديا الإلهية"... كانت حروف الإنتصارات الإلهية قد تكدّستْ في الشارع وفوق الجدران، بينما جحيم دانتي يقول لي عبر المرآة: "في منتصف طريق الحياة، ألقيتني في غابة مظلمة. يصعب أن أقول ما كانته تلك الغابة القاسية... التي تبعث الخوف في الفكر... مريرة هي لا يكاد يضاهيها في مرارتها الموت...".

انزلقتْ حروف الجحيم من فوق المرآة، وداخلَتْ جسدي العاري، ثم شرَعَتْ بالانبثاق كانبثاق الدود من جوف جثة.

وُلد دانتي في أيار1265، أما أنا فلستُ أدري إذا ما كنت قد وُلدت بعد. 

(*) فصل من عمل قيد الإنجاز بعنوان "قبلات السيّد"
increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها