الجمعة 2023/04/21

آخر تحديث: 12:03 (بيروت)

يزن الهجري لـ"المدن": نحتاج الجنون.. والموسيقى -خارج السوق- خلاص

الجمعة 2023/04/21
يزن الهجري لـ"المدن": نحتاج الجنون.. والموسيقى -خارج السوق- خلاص
"كتابة الموسيقى مبدئياً وسيلةٌ للتعبير، لكنّها عندما تضجّ بالخلق والمعاني تصبح غاية في ذاتها"
increase حجم الخط decrease
في زمنٍ تتوّهج فيه السلع الموسيقيّة وتنطفئ على عجلٍ كعود ثقابٍ، ويتذرّع الابتذال تارةً بالانعتاق وتارةً بالتجديد، تتخبّط الأغنية العربيّة في إشكاليّاتٍ يصعب حصرها، ما بين دعواتٍ للذوبان في ثقافة الاستهلاك الأحاديّة المعولمة، وأخرى تقدس التراث الفنّي وتناحر مُجدّديه ونقّاده.

وقد برز في خضمّ هذه التجاذبات، جيلٌ حديثٌ من الفنانين الذين ترفّعوا بإبداعهم عن الجدل، مثل يزن الهجري، الفنّان السوري الشامل الذي عبر حقل الألغام الحائل بين المحليّةٍ المفرطة والعالميّة اللامحدودة، من دون أن يهاب التنظير أو أن ينتقص من هويّته التي حمل وزرها بتفانٍ من دمشق إلى بيروت ومن بيروت إلى أميركا، حيث يعيش اليوم في عوالمه الزاخرة بالجنون والخيال.

فرغم ولعه الواضح بالموسيقى الكلاسيكيّة وإتقانه لقواعدها إلى جانب قدراته الموسوعيّة في إنتاج أنواعٍ موسيقيّةٍ عالميّةٍ، كالبوب والفالس والتانغو والروك، لم يجرف سيل العولمة الهجري بعيداً من الأغنيّة العربيّة، فظلّ مولعاً بالنغمة واللهجة المحليّة، وألّف وكتب لعددٍ من فناني العرب أغنياتٍ جديّةً مشبّعةً لحنياً وشعريّاً، وكان على رأس المتعاونين معه ناي البرغوثي، هبة طوجي، مكادي نحّاس وغيرهن.


هذه التجربة الفريدة لفنانٍ ارتحل بين ثقافات العالم وفتح مسارات تجديدٍ نخبويّةٍ لموسيقانا من دون أن يفقد قاموسه الشامي، وعناده، وتناقضاته، كانت محور الحديث في هذا اللقاء الغنيٍّ والمتشعب الذي أجرته "المدن" مع يزن الهجري.

"كنبيٍّ من زجاج"

- تبلورت شخصيّتك في بُعدها الثقافي- الفنّي في بيئةٍ عربيّةٍ أحاديّة العمق، من أين جئت بكّل هذا التمرّد؟

* شخصيّاً أعتقد أنني محظوظ لتواجدي في أسرةٍ ومحيطٍ متعدّد الأبعاد والاهتمامات، من الثقافة والفنون، والسياسة، والعلوم والمجتمع. الحقيقة أنّ لعائلتي الفضل الأكبر في نشأتي وما أنا عليه اليوم، إذ إني أكاد لا أذكر يوماً خلى من الحوارات الفلسفيّة والأدبيّة في بيتنا. الجميع متذوق للفنون ويمارس أفكاره المجرّدة بحريّة تامّة. أمّا التمرد فأحبّ أن أسمّيه حريّةً ورغبةً صادقةً في التعبير عن الذات وطرح التساؤلات حول العالم والمحيط بفضولٍ واهتمامٍ، وهو ليس تمرداً بالمعنى العسكري أو المؤسساتي، رغم أنّ التمرّد يستهويني بشتّى أشكاله.

- كثيراً ما تشطح أعمالك إلى ما وراء بُعدنا الملموس، أين واقعك بين كلّ هذا الجنون؟

* في قصة "نهر الجنون" الشهيرة، نتساءل في نهايتها: أيعقل أن يكون هذا الذي ندعوه واقعاً، هو الجنون بعينه؟ بالنسبة لي ما أفعله ليس جنوناً، بل هو ربّما ما يحول بيني وبين الجنون. ومع ذلك قد يبدو للوهلة الأولى كما تصفينه، وهذا يحدث حصراً عندما نطالع الفنون بعينٍ غير فنيّةٍ ونحلّلها بعقولٍ مكبّلة، وكما يقول نيتشه: "من يفوته سماع الموسيقى، يظن المتمايلين على أنغامها مجانين". ولا بدّ أن أضيف هنا، أنّ الجنون في الفنّ والحبّ هو أجمله وهو عين العقل، ويا مرحباً به! وأريد أن استغلّ سياق حديثنا فأدعو العقلاء لقراءة كتاب" دفاعاً عن الجنون" للأديب الكبير ممدوح عدوان، ليفهموا كم نحن بحاجةٍ للجنون في حياتنا!

- من دمشق وبيروت حيث "أصغر كلمة بتعني أكبر شي"، إلى أميركا حيث لا تعني كلماتك العربيّة أيّ شيء على الإطلاق، هل كان فنّك حبل خلاصك؟

* جوهر الإنسان عمله.. كان جدي يقول لي هذا، والعمل خلاصٌ بلا ريب، خصوصاً إذا كان فعلاً إبداعيّاً منسجماً مع روح صاحبه، حيث يعكس الإبداع ذات المبدع ويبتكرها في آن، كما يلهم عبرها الآخرين، وهو يصير بيت المبدع وحبّه ثم يصير عالمه بالكامل.

أمّا بالحديث عن لساني العربي الذي أتكلّم وأنتج من خلاله أعمالي، فنعم، قد لا يفهمه الأميركيون، لكّن العالم كلّه يفهم الموسيقى وكلّ شخص يدركها بقلبه وحواسه، وأنا أيضاً أعمل وأنتج موسيقى مختلفةٍ بشكلٍ دائمٍ وأتعاون مع موسيقيّين وفرقٍ من بلدان وجنسياتٍ متعددةٍ وقد نتعثر أحياناً في فهم بعض التفاصيل الحياتيّة الصغيرة، لكّنها لا تتعلق غالباً بالموسيقى، فحين تحضر الأخيرة أفهم الجميع والجميع يفهمني، وهذا ليس عمل السحر، بل إتقاننا لعلوم اللغة الموسيقيّة التي تتيح التواصل الشخصي فضلاً عن معانيها الانفعالية. وأضيف هنا أنني ومنذ الصغر أستمع إلى المؤلفين الموسيقيين العالميين على تنوّع مشاربهم وجنسيّاتهم، ولم تحضرني يوماً حاجة للتفكر في معنى جملةٍ موسيقيّةٍ ما، الموسيقى تُفهم بتلقائيّة، وبالتأكيد الموسيقى هي الخلاص.

- فنّك صراعٌ دائمٌ بين الأضداد، هل يختلق الإبداع التناقضات أم يجسّدها؟

* مسألة الأضداد والثنائيات شغلتني شخصياً وستلازمني مستقبلاً بلا ريب، حيث أعتقد أنّ الشك والتناقض في الحقيقة يغني الشخصيّة ويثريها وليس العكس، وهنا قد يساء فهمي، لكن خذي مثلاً شخصيّةً في روايةٍ أو فيلم، وأنت تحترفين الكتابة والإخراج، يستحيل أن تكون هناك شخصيّةٌ مطلقة الخير أو الشر، كونها ستكون غير قابلةٍ للتصديق، كما أنّ الطبيعة حولنا زاخرةٌ بالأضداد، وفي رأيي يجب أن تكون الفنون كالطبيعة حرّة وطليقة، ومهيّأة لاستيعاب التناقضات وإلّا أصبحت أحاديّة العمق، وأُبعدت من كونها انعكاساً لغنى النفس البشريّة، حيث لا تطمس التناقضات بعضها البعض.

الخلاصة هنا أنّ المفاهيم والقيم تنمو وتُعرف أكثر بوجود أضدادها، فالإيمان يُمتحن بالشك، ويتعايش معه في مواضعٍ عديدة ربّما، وحبّ الوطن لا بدّ أن يعارضه نقدٌ وشتائمٌ أحياناً، فكل فكرٍ متصل في العمق بنقيضه وقد أصاب نيتشه عندما قال "إنّ كلّ مفكّرٍ كبيرٍ بداخله شخصيّاتٌ تتجادل في رأسه". تستطيعين أن تفكّري بما تشائين وقد تحملين فكرتين نقيضتين في الوقت عينه، وهذا العمل بحدّ ذاته براعة وحكمة.


- الفنّ في عوالمك، غاية أم وسيلة؟

* سؤالكِ كبير ومتعدد الأوجه، دعينا نفترض مثلاً أننا نريد كتابة أغنيةٍ عن القدس باعتبارها غاية، أيعقل أن تكون وسيلتنا هي استخدام كلام وموسيقى مكرّرة وركيكة؟ أحياناً تسيئ الوسيلة لغاياتنا.

من منظورٍ آخر، وإذا ضربنا المثال بلوحة "سلّة التفاح" لسيزان، والتي تصوّر تفاحاً وطبيعةً صامتةً، نجد أنّها تعتبر من أهمّ اللوحات التي اعتمدت مفاهيم جديدة في الرسم وألهمت في ما بعد التكعيبية والتعبيريّة، رغم أنّ موضوعها نفسه -أي "الغاية"- ليس عميقاً. هنا الغاية مبسّطة، لكنّ الوسيلة مبتكرة. وقد ترتفع الوسيلة بالغاية إلى مراتب عالية وقد تهبط بها مهما كانت الثانيّة تحمل معاني سامية، وكتابة الموسيقى مبدئياً وسيلةٌ للتعبير، لكنّها عندما تضجّ بالخلق والمعاني تصبح غايةً في ذاتها، فالنظر إلى المجالات الإبداعيّة وكأنّها محض وسيلة هو انتقاصٌ منها.

"كطفل يلهو باللغة"

- يبدو من تراكيب شِعرك ومفرداتك أنّك طفل يلهو باللغة ولا يخشاها، هل تسعى لترويض هذا الطفل أحياناً؟

* على العكس، يعنيني بالدرجة الأولى أن أحافظ على هذا الطفل، فهناك حيث هذه الطفولة، ينام الإبداع، والفضول، والدهشة، والنقاء. أعتقد أنّ الناس الذين يملكون تواصلاً مع طفولتهم جذابّين. أنا نفسي ما زلت طفلاً يشاهد الكرتون ويسحره عالم ديزني وهناك أدباء وفنانون  كتبوا وأنتجوا للأطفال أعمالاً وأدباً وكان نتاجهم مدهشاً، لماذا؟ ... لأنّ الفرد عندما يخاطب الطفل في الإنسان يخاطب أعماقه مباشرةً، وحتى الوحوش والجبابرة وأنصاف الإلهة، إذا أصغيت وتكلّمت إلى الأطفال في دواخلهم، قد يضحكون ويبكون ويلقون كل أسلحتهم ويعودون بشراً.

وأعتقد أنّ في السينما مثلاً كما الأدب، تلاحظين كونك كاتبة مسرحيّة، أنّ القصة عندما تروى من وجهة نظر الأطفال تسمح لنا بأن نرى العالم من الداخل كما يراه الطفل، شاسعاً ومدهشاً وفيه من الحريّة والاندفاع والمرح الكثير والكثير وهو أكثر إبداعاً من عالم الكبار المقيّد بالمنطق والخوف. ولعّل أبلغ ما يسعني أن أختتم به إجابتي هنا، هو ما قاله بيكاسو: "قضيت نصف عمري وأنا أسعى وأحلم أن أكبر والنصف الباقي منه أكافح لأعود طفلاً".

- تصوّر كلماتك العالم وكأنّه زائفٌ ضبابيُّ المعالم، أيجعله الإبداع الفنيُّ حقيقياً أم أنّه يزيد الوهم وهماً؟

* إن أكثر ما هو حقيقي في العالم، هو الخيال الإبداعي للإنسان، أمّا ما قد يوصف بالزيف والوهم فهو تكبيل حريّة الإنسان وإغراقه في الحروب والصراعات. لولا الفنون والآداب والعلوم والروحانيّات لكان تاريخ الإنسان كله حكاية دمويّة حول صراعاتٍ لا تنتهي. فكيف يكون الفكر والفنون وهماً؟! لا قيمة للمجتمع الإنساني من دون إبداعٍ يثريه ويجعل له قيمة.

- شِعرك الغنائي يحمل نقداً سياسيّاً وأبعاداً ميتافيزيقيّة، إلى أي مدى تعتبر أنّ مجال القصيدة الغنائيّة ملائمٌ لطرح القضايا الحساسة؟

* سؤال جميل وأشكرك، لكني لست شاعراً بهذا المعنى. أنا أكتب الأغاني، لكني أحترم الشعر كثيراً لذلك لا أنعت نفسي بالشاعر. الحقيقة أني تقريباً انتهيت من تلحين مجموعة من القصائد العربية ووضعها وتوزيعها للأوركسترا بنموذج أحب أن أسميه "القصيدة الأوركسترالية" كما تسمى في الموسيقى العالمية. إنها امتداد للـ"Aria" أي الأغنية في الأوبرا والتي تتضمن تصويراً وسرداً ملحمياً وموسيقياً، وسأتكلم عن تفاصيل هذا العمل لاحقاً عندما يحين الوقت المناسب.

للقصيدة في الموسيقى العالميّة، والعربيّة خصوصاً، تاريخ عريق ساهم فيه مؤلفون عظماء وبنوه خطوةً بعد أخرى، فعندنا عبد الوهاب والسنباطي والأخوان رحباني وغيرهم، وأوروبياً هناك شوبرت وبرامس ومالر وكثيرون غيرهم. القصيدة ألهمت الموسيقيين لرسم معانيها كلٌ بطريقته، فالشعر والموسيقى حين يمتزجان بجودة، يستطيعان معاً إثارة قضايا كبرى وهز وجدان الناس وتحريض خيالهم، والسبب يكمن في أنّ شكل القصيدة في الموسيقى هو شكلٌ أكثر تعقيداً وثراءً وملحميّةً من سواه من الأغنيات العادية. وأنا شخصياًّ أجد في القصائد العربيّة الكلاسيكيّة والمعاصرة ثروةً كبيرةً يجب أن تستغل موسيقياًّ.

- تفرّدت عروضك الممسرحة سابقاً بنقدٍ سياسيٍّ واجتماعيٍّ لاذعٍ، والجلي أنّك لست من المُنادين بإبعاد السياسة من الفنّ، ما أهميّة الأغنيّة السياسيّة في مجتمعاتٍ كمجتمعاتنا العربيّة برأيك؟

* الأغنية السياسة حين تكون ترجمةً لوجدان الناس تكون عملاً عظيم، لكن لا يجب أن يغيِّب الفكر السياسي، سواه من الموضوعات كالحب والصداقة والجمال، فإن غابت هذه القيم عن الأغنية العربية بسبب فرضية الالتزام، سنخسر الكثير، ناهيكِ عن خلق مسوغ للاستسهال المهني والعلمي بحجة الالتزام السياسي. وهذا لا يلغي أنّ الفنان صاحب حق يجب أن يسعى لتكون قضاياه الخاصة قضايا الناس كلها ولتصير حقوقه وقضيّته إلهاماً لحقوق وقضايا الآخرين، والأغنيّة السياسة مهمةٌ مثل الأغنيّة الحياتيّة والمدنيّة والرومانسية، أو أغنية زفافٍ أو رثاءٍ أو تهويدةٍ لطفل ينام. فكلّ أغنيةٍ مهمة، لكنّ الأهم من موضوعها هو جودتها.

"رحّالة يدقّ أجراس العالم"

- ما بين الموسيقى الشرقيّة والجاز والروك وإنتاجاتك الأوركستراليّة النخبويّة، هل تظنّ فنّك نموذجاً مثالياً للعولمة الموسيقيّة؟

* قد أكون عالمياً أو أسعى إلى ذلك، لكني لست معولماً، فأنا لا أعني بالعالميّة الشهرة والصيت ومحطات التلفزة، بل أني مهتمٌ وباحثٌ دائمٌ في الموسيقى والفنون العالميّة بشتّى أشكالها من الشعبيّة إلى الحضريّة، ومن غالبية الثقافات والبلدان والأزمنة والعوالم وأسعى للاستزادة. وأمارس هذا كله فعليًّا وليس نظريًّا فقط، ومن يتابعني يعي هذا جيّداً. أمّا العولمة فهي مسألةٌ أخرى، هدفها ليس البُعد الحضاري ولا التثاقف بل الاختزال والتبسيط والتشويه بالإضافة إلى الاستهلاكية، وهذا يسلب الإنتاجات الفنيّة قيمتها الرفيعة.

- متى يكون تهجين موسيقانا العربيّة استلهاماً وتجديداً، ومتى يمسها تشويهاً وتخلّياً؟

* سؤال رائع، وهو يحتاج تراثاً بحثياً كاملاً للإجابة، لكنّي سأطرح وجهة نظري بإيجاز:

أولاً: يكون تهجين الموسيقى استلهاماً وتطويراً حين يكون نتاج فهمٍ عميقٍ للثقافات الأخرى، ونتيجة إعجابٍ بقيمها، لا انبهار ثم نسخ وتقليد. ففي الحالة الثانية، يصبح التهجين كما ذكرت سطحياً، كي لا نقول "تشويها أو تخلياً"، لأن حبس الموسيقى العربيّة في زنزانة الأصالة بحجة تخليصها من كلّ ما هو "غريب وليس عربياً" كما يقول بعض النقاد، برأيي كلام خاطئ، حتى لو جاء مدفوعاً بنوايا حسنة، وهو حكمٌ عليها بالموت البطيء. وحال اللغة العربية في هذا الإطار مشابهٌ للموسيقى، فهي تحتاج إبداعاً أصيلاً وترجماتٍ مستمدةً من كلّ توّجهات الفكر الإنساني بدلاً من التقوقع. يجب أن نحاور الآخر، ويكون للحوار مغزاه وعمقه ويعكس التكافؤ بين الطرفين.

ثانياً، يجب ألا نحمل عقدة نقصٍ حيال موسيقانا، بل علينا فهمها وتقدير عظمتها وخصوصيّاتها تماماً كتقديرنا لموسيقى الثقافات الأخرى، فعند مخاطبتي مؤلفين من جامعات عالميّة من نيويورك وبرنستون وغيرها، لا أشعر بالحرج، بل العكس، فأنا أعرف تاريخنا الحضاري، وأعرف تأثيرات موسيقانا في الموسيقى العالميّة، والعكس صحيح.

إذاً "الحضارة تتحاور ولا تتصارع" كما يقول المفكر إدوارد سعيد، والحوار مع الثقافات الفنيّة الأخرى حتمي وضروري ويجب أن يصحب بدرجة معرفةٍ عاليةٍ وإخلاصٍ في العمل الموسيقي بالإضافة إلى عمقٍ في شخصيّة المؤلف.


- من يتتبع إنتاجاتك إلكترونيّاً يلحظ أنّك لا تكترث لمتطلبّات السوق وأعداد المشاهدات، وهذا يطرح إشكاليّةً كبرى حول غاية الإبداع، فمن دون "سمّيعٍ" يسمع، لماذا يبدع المبدع؟

* صحيح.. أنا لا أهتم بما يسمى السوق، لأن السوق بوصفه سوقاً لا يكترث سوى للسلع، وأنا أحترم الموسيقى وتاريخها وعظماءها الذين لم ينتجوا سلعاً استهلاكيّةٍ وبضائع، لذلك لم ولن أسعى لإنتاج البضائع. كل موسيقاي تنبع من حبي للموسيقى، وكثيراً ما أرفض عروضاً تجاريّةً لتأليف الأغاني الاستهلاكيّة سواء في العالم العربي أو في أميركا. ورغم أني لا أساير هذا السوق وموسيقاه وعروضه في عملي، أجد الكثير من الشباب العربي يستسيغ ما أقدّمه ويحفظ أغنياتي، ويرسل لي رسائل إعجابٍ وشكر وأنا ممتن جداً لهم وأعتبر نفسي محظوظاً، فالفنون الجديّة قد تبدو أحيانا بعيدة من الأنظار والأضواء لكنّها تحفر وتؤثر في العمق، والضجيج في المقابل أسرع لفتاً للانتباه، لكنّه سريع ويرقد في "مقبرة النسيان الفسيحة" كما يصفها ميلان كونديرا.

- ما الذي دفع النخبة الفنيّة العربيّة باتجاه "موسيقى الأندرغراوند"، عناد الصفوة وميلهم لنقد الثقافة الاستهلاكيّة، أم تردّي الذوق العام؟

* ما دفع النخبة إلى "موسيقى تحت الأرض" كما سمّيتِها، هي على ما أعتقد، رغبتهم في التعبير الحر الصادق عن أنفسهم وبحثهم في سبيل خلق هويّاتهم من دون قيودٍ، وذلك مرة أخرى لا ينسجم مع سوق الموسيقى الذي لا يهتم بتاتاً لهموم هؤلاء الفنانين أو الناس عموماً، ففي حين تطرح هذه التجارب تساؤلاتٍ تدفع الناس لإعادة التفكير بواقعها وتحثّها على التغيير، تخدّر المنتجات الاستهلاكيّة عقولنا وتبرمج ذائقتنا وحواسنا يوميّاً.

- برأيك، كموسيقي، هل ستخرج الموسيقى العربيّة من قمقم الاستهلاك والاستنساخ الذي كوّمت نفسها داخله؟

 * إذا أردت رأيي بصورة توقعٍ أو نبوءةٍ "من زجاج"، فالحقيقة أنّه يوجد غنى على مستوى التجريب والتجديد وهنالك تجارب مثيرة للاهتمام، تصنع طرقاً جديدةً ومبتكرةً، لكنّها محصورةٌ بمتذوقي الفن فقط، أمّا على صعيد "السوق" فالجواب: "لا"، لا أرى في القريب أيّ تغييرٍ منتظر، بل أعتقد أن الاستهلاك سيزداد فتكاً وتسارعاً مع الوقت، وما نراه عبر مواقع التواصل خير دليلٍ على هذا، لكنّي أقول لكِ بصدق، كلّما أزداد العالم ظلماً وظلاماً وساد الرديء والمفكك، ازددنا إشعاعاً وقناعةً وإلهاماً في أن نصنع الجمال والفكر أكثر فأكثر، وهو ما يليق بنا.

increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها