الأربعاء 2023/04/19

آخر تحديث: 13:17 (بيروت)

الافتتان بدمشق: تشابلن، توين، سانت إكزوبري...والداعية الهندي المُرحَّل ليلاً

الأربعاء 2023/04/19
increase حجم الخط decrease
على العكس من رغباتنا في التجوال خارج حدود سوريا، خلال وجودنا في مكاننا الأصلي، تصبح رغباتنا، نحن البعيدين منه، مكرسة للغوص داخله.

أتجوّل في أسواق "أنتيكات" المدن التي أزورها على الحدود بين فرنسا وألمانيا، وأبحث في رفوفها وبسطات الباعة عن أي أثر سوري، وتتعلق عيناي تلقائياً بالحروف العربية، وكثيراً ما كنت أتوقف عند أشياء فارسية أو أفغانية أو باكستانية ظناً مني أنها قادمة من الشرق العربي!

"اليوتيوبرز" الذين تدفقوا إلى مناطق سيطرة النظام بدعوات من شركات علاقات عامة تروج له، جاؤوا لكي يستكشفوا بيئة الحرب شبه المنقضية، لبسوا هيئة المستكشفين، وحملوا عُدّة التصوير، فهي أداتهم للتدوين، لكنهم كانوا يسيرون في خطوط ضمن خريطة مرسومة بدقة، لا تسمح لهم بجاوز حدود المسموح، وحين يقترب أحدهم من الممنوع يتوجب عليه إطفاء الكاميرا!

التفكير في حال البلاد التي خاضت الحرب الأهلية، يقود إلى أسئلة عن الأسرار والمجهول، لكن ما لا يعرفه الغرباء تقابله معرفة أبنائها بواقعهم، والأمر في مجمله لا يختلف عن زيارة السائحين لأي بلد في العالم. هم يفتتنون بالتفاصيل، لكن سكانه لا يكترثون ويتعجبون من اهتمام الغرباء بها.

يشعر السوري الذي يعيش بعيداً من وطنه بأنه يتأرجح بين هؤلاء، إنه يهتم بالتفاصيل، ويخوض في القطع الشرقية التي يجلبها لتزيّن بيته، لكنه سرعان ما يملّها، حين يوقن بأن لا قيمة لها طالما أنها، مثله، في غربة وابتعاد عن المكان/البيت. لكنه في المقابل يستغرق أكثر فأكثر في إعادة تمثّل صورة بلاده، بين ما كان يعرفه، وما آلت إليه، وكذلك التجاويف التي يحتاج للدخول فيها من أجل أن يتزود بالمعرفة الكاملة، فهنا ستتركز قوته من أجل ألا يخسر حربه الشخصية مع الطاغية والنسيان.

ومن تمثلات الصورة أن دمشق "البغيضة"، أي تلك التي تلبس دروع النظام القمعية، وتفتك بمن يعارضون ما جرى ويجري، وتدوس على آلام سكانها، لم تكن هكذا دائماً. أو بالأحرى، كانت تحتال على قسوتها، فتظهر في عيون زائريها الذين صاروا كأبنائها، باحتضان غير مسبوق ودفء لا يمكن أن تعثر عليه إلا عند الأمهات المرضعات. سيتهدج صوت الصديق شاكر الأنباري الذي كتب روايات عديدة ذات فضاء دمشقي سوري، بعد إشكالية مع دائرة الهجرة والجوازات قائلاً: "طيلة الأيام الماضية كان الكابوس هو أن يقوموا بترحيلي من الشام"! الروائي العراقي الذي يحمل جنسية بلد إسكندنافي، كان ينطق بأصوات آخرين وجدوا أنفسهم بين ليلة وضحاها خارج دمشق وخارج سوريا أيضاً، بعد قرار ترحيل جائر، إما بسبب مخالفة لم يستطيعوا أن محوها بدفع رُشى لموظفين يسيل لعابهم عند رؤية الأجانب، أياً كان منبتهم، أو بسبب قرار سياسي صدر في مكان ما وبات تنفيذه واجباً.

هكذا، لن تفلح جهود مثقفين سوريين في بداية العام 2004، انصبت على منع قرار ترحيل جائر صدر بحق الشاعر الصيني أحمد جان عثمان، نفذه النظام، كرمى لعيون الحكومة الصينية التي ساءها أن ينعم الرجل بحياة لطيفة بين طرطوس التي سكنها، ودمشق التي درس فيها وصار منها وصارت منه! وسيكتب في موقع "الحوار المتمدن" بعد ذلك مخاطباً سورياً آخر اسمه فهان كيراكوس قائلاً: "انطلاقاً من حقي في الجنسية، الذي يمنحني إياه الدستور السوري، ذلك الحق الذي يخولني الكلام في الشأن السوري، يمكنني القول إن سوريا وطن لأمثالنا، أنا الأويغوري الصيني وأنت الآشوري وفرزند عمر الكردي وحسين عجيب العربي، الذين تخطّوا آفاق وحدة العرق، كالعربية والآشورية والكردية والأويغورية، أو وحدة المعتقَد كالإسلام والمسيحية واليهودية والبوذية، نحو وحدةٍ أكثر انفتاحاً وتحقيقاً للكينونة السورية ألا وهي وحدة الحوار".

ذات يوم كتب الروائي والناشر الأميركي، مارك توين، الذي جاء دمشق مستكشفاً، نصّاً آسراً فيها، دوّنه في كتابه "أبرياء في الخارج" أو "أبرياء على سفر" بحسب ترجمة الكاتب السوري صبحي حديدي، قال توين عن المدينة إنها: "ضرب من الخلود. شهدت إرساء مداميك بعلبك، وطيبة، وإفسوس، وأبصرت هذه القرى تتطوّر إلى مدن جبارة، تدهش العالم بعظمتها. وعاشت دمشق لتراها بائدة، مهجورة، متروكة للبوم والوطواط. شهدت الإمبراطورية الإسرائيلية في أوج غطرستها، كما شهدتها تُباد. شهدت بلاد الإغريق تقوم، وتزدهر طيلة ألفَيْ سنة، ثمّ تموت. وفي كهولتها أبصرت روما تُشيّد، وتهيمن على العالم بجبروتها، قبل أن تراها تفنى. لقد عاشت دمشق كلّ ما حدث على الأرض، وما زالت تحيا. لقد أطلّت على العِظام النخرة لآلاف الإمبراطوريات، وستطلّ على قبور آلاف أخرى توشك على الموت. ورغم أنّ سواها يزعم حيازة اللقب، فإنّ دمشق تظلّ، بحقّ، هي المدينة الخالدة".

توين، الذي يحكي البعض عن عدم إعجابه بالعرب الذين قابلهم في رحلته، اختتم نصه بتوصيف مبني على روح كلمات النصوص المقدسة فقال: "رغم عمرك الذي من عمر التاريخ ذاته، فإنك نضرة مثل نَفَس ربيع، متفتحة مثل براعم وردك الجوريّ، عابقة مثل زهرة برتقالك، أواه يا دمشق، يا لؤلؤة الشرق!".

كانت المدينة محطة راسخة في الرحلة إلى الشرق، يمر بها حجاّج الديانتين المسيحية والإسلامية، لكن هذا لم يكن السبب الوحيد لزيارتها. فكما فعل صاحب روايات "توم سوير" و"مغامرات هكلبيري فين"، أتى كثيرون، ومن بينهم تشارلي تشابلن الذي حل فيها في العام 1929 لإطلاق عرض فيلمه "السيرك" في سينما زهرة دمشق، لكن أحداً لم يكتب عن قدومه بشكل تفصيلي أو يلتقط صورة له في المكان.


(أنطوان دو سانت إكزوبري في مطار المزة)

وكذلك سيمر الطيار المغامر والروائي الفرنسي، أنطوان دو سانت إكزوبري، بدمشق في العام 1935، وسنحظى هذه المرة بصورة أو صورتين تظهرانه مع طائرته وآخرين في مطار ما، وسنتأكد من أنه مطار المزة بعد مقارنة تفاصيل المكان مع صور أخرى له.

البحث عن وفي مدونات الزوار، عن دمشق، يصبح أكثر من مجرد تمحيص في تاريخها. فهو، ونتيجة تراكم الأسى بسبب الظرف الحالي، جزءٌ من محاولة استعادة القطعة المفقودة من الحياة الشخصية، وكذلك محاولة التعويض عن قسوة الواقع الفعلية، التي لا يمكن تجميلها إلا من خلال افتراض أنها عابرة، وأن الأمور لم تكن كذلك في الماضي! لكن هل هذا حقيقي؟

ثلاث زيارات قام بها الداعية الإسلامي المتنور الهندي، أبو الحسن الندوي، إلى دمشق. الأولى في العام 1951، والثانية 1956، وكتب عنهما في كتب أسفاره ورحلاته، ومن حيثياتهما رسالة وجهها إلى سوريا عبر أثير إذاعتها، على غرار رسائله إلى مصر وإيران، ما برح شباب التيارات الوسطية يتداولونها، يحكي فيها عن تاريخها وموقعها في العالم كله، والإسلامي منه على وجه التحديد، فكل المسلمين يرنون إلى دمشق. أما الزيارة الثالثة، فكانت في العام 1964.

وفي زيارته الرابعة في العام 1973 حدث أمر ضجت به الصحف والإذاعات آنذاك، لكنه سرعان ما صار منسياً. فقد جاء الرجل بدعوة من السفارة السعودية، مع وفد من رابطة العالم الإسلامي كان يجول في بلدان غرب آسيا. غير أن خطة الوفد للتجوال على المدن السورية لم تكتمل، فبعد يومين من اللقاءات مع رجال الدين الدمشقيين، بمن فيهم المفتي الشيخ أحمد كفتارو ووزير الأوقاف عبد الستار السيد، وفي ليلة الاستعداد للسفر صباحاً إلى حلب للقاء رجالاتها، جاءت إلى الفندق الذين يبيتون فيه ثلة من رجال الأمن، أمرت الضيوف بتوضيب أغراضهم بسرعة، ثم وضعتهم في سيارة أوصلتهم إلى الحدود اللبنانية، من دون أن يتمكنوا من التواصل مع مضيفيهم، أو أن يعرف أحد سبب ترحيلهم!


(أبو الحسن الندوي)

كان الأصدقاء الذين يأتون لزيارتنا في المدينة أو السكن فيها لفترة مؤقتة، يتماهون مع التفاصيل والجزئيات الدقيقة في قاموس الحياة السورية، إذ كانوا يخافون أن يخبرهم شرطي الهجرة والجوازات في المراكز الحدودية بأن عليهم مراجعة أحد الفروع الأمنية، كما كانوا يعرفون أن عليهم دفع الجعالات من أجل أن تمشي الأمور. لكن الشيء الأهم بالنسبة لهم ولمستضيفيهم، أنهم سيتشاركون معاً الحساسية والنفور من تغوّل النظام على الحياة الشخصية، والشعور بالمراقبة، بوجود المُخبرين بين أوساط المثقفين السوريين. لهذا سيتعاطف هؤلاء مع الثائرين. بينما سيتماهى آخرون مع شخصية رجل السلطة، أو مع المنتفعين الذين يعيشون مع حاشيته ويلتقطون بقايا ولائمه، فيقررون البقاء، وعدم مشاهدة أي شيء سوى ما تبثه قنوات النظام، وتجاهل أصوات المدافع التي تقصف من جبل قاسيون وهي تدك بلدات وقرى ريف دمشق، بينما يطلبون من نادل مقهى "الروضة" فناجين قهوتهم ثم يتحدثون عن الشعر والترجمات والنشر هنا وهناك!
increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها